اخر الاخبار

كثيرا ما يغرم الروائي بالموضوع فلا تهمه بعد ذلك الخيارات الفنية المتاحة كي لا تنقطع سلاسل أفكاره التي تترى متدفقة تدفقا يجرف معه أية فرصة أو إمكانية للتفكير في الفن. وليست المشكلة في جدلية الفني/ الحياتي، ولا هي في عنت المخيلة وتضاؤل طاقتها أمام غنى الواقع اليومي وغرابته، بل المشكلة هي في اعتياد الروائي على نمطية التعبير الآني عن الحياة والمجتمع من دون أن يعير بالا للموازنة بين ما هو موضوعي وما هو فني. والمعروف أن الاعتياد عدو الإبداع، فهو يعيق الكاتب عن التجريب والتجديد، فتغدو الرتابة حاكمة ومستحكمة عليه بدءا ومنتهى. ولأن الرواية فن قبل أن تكون قالبا كتابيا وجنسا أدبيا، يصبح أكثر ما يعسر على الروائي التخلص منه أو فهم عواقبه هو اهتمامه بتفاصيل الواقع والإلحاح الزائد على ما هو وقائعي وشخصي. ويستتبع ذلك كله نقص وأحيانا فقر في امتلاك الإمكانية التكنيكية (الصنعة الفنية) فلا تتجدد أساليب الكاتب ولا تتنوع وسائله في بناء الأحداث والتعبير عن الشخصيات. وطبيعي أن يتطور فن الرواية على يد من امتلك ناصية هذا الفن بالحس المرهف المثقف والعدة الإبداعية اللازمة، لكنه عويص المنال على من اتخذ من الحظ والصدفة طريقا لدخول عالم الرواية.

إن تشخيص هذه الظاهرة في الرواية الراهنة، لا يعدم أن تكون هناك استثناءات يمثلها كتّاب اتخذوا من الفن رأسمالا في كتابة الرواية، فراهنوا على الموضوع مثلما راهنوا على الفن، وتمكنوا من إعادة تمثيل العالم لا من أجل الوقوع على حقيقته وإنما من أجل المواصلة في البحث عن هذه الحقيقة. ومن هؤلاء الكتّاب إسماعيل سكران الذي داوم على الواقعية في كتابة الرواية سالكا جادة الفن، غير تارك الواقع يسيِّر عمله، بل الفن يسيِّر العمل أيضا ويوجِّهه الوجهة التي تخدم أغراضه. وهو ما نجده جليا في رواياته التسع التي كتبها ما بين الأعوام 2015 – 2023 وهي على التوالي: (جثث بلا أسماء/ هزار/ كرات الثلج/ فردوس أمي القديم/ معزوفة العنف والخراب/ مصحة الوادي/ دخان المرافئ/ نزلاء في محيط أخضر)

وعلى الرغم من اختلاف هذه الروايات في موضوعاتها والقضايا التي تطرحها، فإن الملاحظ عليها جميعا أنها تتخذ من راهنية الواقع المعيش معيارا لاختيار التكنيكات الفنية، بمعنى أن التكنيك الفني يفرض نفسه بسبب ارتهانه بالواقع، ومن ثم لا ينفلت الموضوع فيسيطر على الشكل ويضعف نسيجه، ولا التكنيكات تتزاحم فيتشتت الموضوع ويفقد حرارته.

ولا شك في أن هذه التشاركية أو الاشتراكية ما بين راهنية الواقع الموضوعي وتلازمية التكنيك الفني هي التي تعطي واقعية اسماعيل سكران مزية أنها واقعية مخصوصة، مما نلمسه في روايته( نزلاء في محيط أخضر) والصادرة عن منشورات الاتحاد العام للادباء 2023. وفيها حرص على اختيار التكنيكات الفنية المناسبة. ولا يفهم من الخصوصية الواقعية أن الكاتب يتقوقع مرجعيا كي يقنع القارئ فنيا بموضوعه، بل الخصوصية كما يقول تودوروف أكثر عمومية وهي لا تتحقق ولا تكون ممكنة إلا (بعقد الصلات بين هذه الخصوصية الواقعية وبعض المظاهر المتميزة في التقنية السردية) الادب والواقع، ص18

وأكثر تكنيك سردي فرضته الخصوصية الواقعية في هذه الرواية هو تكنيك الوهم المرجعي في تصوير الواقع المعيش تصويرا يبدو معه واقعا آخر لا يمت بصلة إليه. ويبدأ الوهم المرجعي من العتبة العنوانية التي تنطوي على مفارقة فنية، فمفردة (نزلاء) تعني أن الجمع الذكوري المنكر يقطن سجنا بمرجعية اقتراف إثم ما، لكن الفضلة الإخبارية في شبه الجملة(في محيط أخضر) تقلب التوقع وبإيهام مرجعي إلى الضد، فالواقع فضاء يوتوبي كله سعادة ونقاء. وهو ما ستعضده بنية المتن الروائي فيتعمق الوهم المرجعي ويتعزز أكثر باستعمال تكنيكات فنية أخرى. ومن ذلك بناء الأحداث على طريقة كتابة المذكرات التي هي نوع من أنواع السرد الشخصي(السيري) وهذا ما يفترض فنيا توظيف بنية السارد الذاتي ولأن الشخصيات الأربع هي المقصودة بمفردة (النزلاء) يكون مهما تخصيص مساحة لها لتدلي بمذكراتها، ومن هنا صارت كل شخصية ساردا ذاتيا. وما بين السراد الاربعة توزعت أحداث الرواية وهم (حسان الحداد/ عبد الزهرة خضير/ جمال طه الساقي/ رشا الحلبي) مع استعمال سيميائي يقوم على وضع عناوين فرعية فيها اسم السارد مقرون بزمان ومكان محددين مثل حسان الحداد مونتريال 1985/ عبد الزهرة خضير مونتريال 1985/ جمال طه الساقي إيران 1983/ رشا الحلبي لبنان 1975.

وتوزيع الأدوار يعني التكافؤ في القيام بالعملية السردية، وهو ما اقتضى استعمال نسق التناوب الذي أضفى على سرد المذكرات صدقا فنيا عززه الوهم المرجعي (بدأت أدون يوميات بسيطة، لكنها في الواقع وحسب رؤيتي الشخصية لها كانت جديرة بأن تدون، فقد كنت أنا أقرب من حبل الوريد إلى الحدث، كنت أشغل منصبا، سوف لن يتوفر لغيري طال الزمن أم قصر، لأنه ببساطة ليس موقعا حكوميا أو رسميا، أنه من بنات الظرف السياسي الذي قذفنا فوق رؤوس الناس) وما يجعل بعض نقاد الرواية يقعون في فخ المرجع، هو أنهم يستحسنون اللغة اليومية ولا يولون طرائق صنع الوهم المرجعي أهمية خاصة. أي أنهم يفترضون في كل كلمة صدقا واقعيا ومن دون ذلك يكون العمل هزيلا برأبهم. والأمر ليس كذلك البتة، إذ كما أن الغموض في الشعر عامل وضوح في بعض الأحيان، فكذلك الوهم المرجعي عامل مهم في تبرير الاشتغال السردي تبريرا منطقيا فيتأكد الصدق الفني للواقع المصور داخل الرواية.  وكلما تقدمنا بقراءة رواية( نزلاء في محيط أخضر) اتضح لنا أن هذا الواقع ليس على حقيقته وأنه دوستوبي حد اللعنة سواء في المهجر الكندي أو في المنطقة الخضراء المحصنة. فما من ديمقراطية ولا حياة وردية وإنما هي انتهازية وسقوط أخلاقي، معه تطفو مخفيات ومغيبات ودسائس ومؤامرات وخيانات، فتتنوع من ثم الدلالات، وأولها دلالة العنوان الشعرية كعتبة رئيسة دالة على نفسها بنفسها. فالواقع النصي هو صنيعة الوهم المرجعي الذي من خلاله يتجلى الواقع المأساوي الذي عاشه السراد الأربعة، من دون أن يكون هذا الواقع رهينة لحظته المرجعية بل هو ممتد ومفتوح بلا تحديد تاريخي. يقول جورج لوكاش: (الواقعية الاصيلة لا تقدم الإنسان والمجتمع انطلاقا من وجهة تجريدية وذاتية وإنما تبرزهما في كليتهما المتحركة والموضوعية) بلزاك والواقعية الفرنسية/ ص11

وعلى الرغم من أن أحداث هذه الرواية بنيت على نسق التناوب وبسراد متعددين، فإن بناء المنظور كان واحدا بوجهة نظر أيديولوجية معها تصبح هذه الرواية أحادية الصوت. وهو أمر ليس باليسير أعني أن يتناوب السراد الذاتيون على قصة واحدة وتظل وجهة النظر واحدة، لكن إسماعيل سكران بهذا الاشتغال التكنيكي اقترب من الرواية متعددة الأصوات حين جعل أربعة ساردين ذاتيين يتناوبون على سرد قصة واحدة وفي الآن نفسه أبقى روايته أحادية في صوتها. وهو ما أوجب عليه أيضا استعمال السارد العليم الذي يظهر في أحيان قليلة بشكل مباغت وفجائي فيقطع على السارد الذاتي سيل مذكراته ويدلي برؤية من الخلف تعزز المنظور الأيديولوجي وتساهم في الدفع بالحبكة نحو التصاعد أو الانفراج.

ولان الساردين الذاتيين يواجهون صراعا نفسيا مع ذواتهم ومع الآخرين، لذا يكونون جميعا على مفترق طريق واحد وخطير يحاكي حالة التيه التي عاشها اوديسيوس بعد عودته إلى الوطن وهو الذي كان ظافرا بحب بينلوبي قبل الرحلة، صار بعدها ضيفا متعبا لا يتذكر سوى ندبته التي سببها له صيد خنزير بري، فلا يجد حلا إلا بسحب ذاكرته بعيدا نحو الظلام ليختفي عن بينلوبي التي ما عاد مهتما بمواجهتها ولا مهتما بالعجوز التي عرفت حقيقته.

إن مفترق التيه هو نفسه واجهه سراد رواية (نزلاء في محيط أخضر) مفترق يسلخ الإنسان عن هويته ويجعله منفيا عن ذاته ولا يعرف موقعه من هذا العالم.

وبالفعل كان ثلاثة من الساردين قبل المهجر منسلخين، حسان باليتم/ وعبد الزهرة بالحرب/ وجمال طه الساقي بالتسفير ولكنهم صاروا بعد المهجر مخلوقات تعيسة تعيش عالما قاتما ومخجلا من الخيانة والمجون والتعويق واللامبالاة في جزيرة أو قلعة أو مستعمرة سكنية معزولة عن العالم (المنطقة المحصنة) وهم الذين كانوا مشردين فحسان مثلا كان يعيش حياته كفافا ويتعرض لشتى الإهانات ولكنه ما أن عاد للوطن حتى صار (من بناة صرح السياسة واحد نجوم الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة) بينما هو في الحقيقة نزيل عمارة المحيط الأخضر كمكافأة على خدماته في إدارة المكتب السري الذي بعد عقدين من العمل والثراء الفاحش، طلب الإحالة على التقاعد. ومثله عبد الزهرة وجمال، عاشا مهاجرين في بلدان أجنبية ثم جاءا الى المحيط الأخضر وتحولا إلى آلات صم لتنفيذ أوامر رجل الائتلاف الأمريكي (يتهالكون على المغانم حتى لو كانت تافهة) ص47، وفي النهاية عادا الى المهجر.  وأدى استعمال المونولوج في إظهار كثير من خفايا هذا الواقع المشين الذي يقطر خزيا وخسة وتناقضا (أخذنا كل شيء وضعنا الوطن في زاوية مظلمة وجلسنا نحن في النور لكي لا نراه) ص93 و (لقد توقفت عجلة الزمن بل تقهقرت منذ أن تربعنا على سدة الحكم عندما امتطينا بغلة الديمقراطية فخولناها إلى مهزلة تاريخية... الوطن مجرد راتب نتقاضاه عند نهاية كل شهر) ص16

وبسبب التعويق صارت الشخصيات متناقضة؛ فما تكرهه تحبه، وما تأنف منه تعتاده، وما تريده تشمئز منه ، وما تضجر منه ترتاح إليه (لا أكتمكم سرا أني لم أحب صوت الغناء الأوبرالي، لكن الأجواء الساحرة التي رسمها المشهد والقصة التي سردتها المطربة جعلاني أشعر بالاسترخاء والرضا) وهذا ما جعل السراد الأربعة أمام طريق واحد لا ثاني له وهو التخلص من ضغط الذكريات والانسلاخ من الذاكرة بسعيهم إلى التعاقد لكنهم كانوا أيضا فريسة الإحساس بالشيخوخة والوحدة والزهايمر الذي معه صار المهجر/ مونتريال والوطن/ بغداد شيئا واحدا.

إن ما آلت اليه حياة الساردين الأربعة من نهايات بائسة بالتخمة والتخاذل والاستسلام يدلل على الخصوصية الواقعية التي عُرف بها إسماعيل سكران وجسّدها في رواياته ومنها رواية(نزلاء في محيط أخضر) فكان يوظف التكنيكات على وفق ما يحيط بشخصياته من ظروف وتحديات.

ــــــــــــــــــــــــ

*صدرت عن الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق- بغداد 2023.

عرض مقالات: