اقترنت نهاية الحرب الباردة مع حملة كبرى بشرت بانتصار الرأسمالية وبنهاية الماركسية كفكرة اجتماعية، قبل أن تفضح الأحداث عجز مطلّقي هذه الفرية عن تصديقها، إذ بقي كارل ماركس، الفيلسوف والاقتصادي والمؤرخ وعالم الاجتماع والقائد الثوري والزعيم العمالي، أكثر الكتاب جاذبية، ليس بين المسترشدين بمنهجه فحسب، بل وبدرجة مقاربة في مؤسسات الفكر الرأسمالي.
كثيرة هي الدراسات التي فسرت إشراقات ماركس هذه، لكن حين بُرر ذبح أطفال غزة بالدفاع عن «الحضارة»، وحين زادت حظوظ معتوه عنصري، بالفوز برئاسة أقوى دولة في العالم، بعد ادانته بأربع وثلاثين جريمة، منها إرشاء ممثلة إباحية، وحين صوّت ثلث الفرنسيين لصالح لوبين، سليلة من قتل في يوم واحد 45 الف متظاهر جزائري، وحين خُدع العراقيون فاستبدل حلمهم بالعدل والحرية، بنظام أقلية، يتقاسم فاسدوه وفاشلوه السلطة والثروة، أصبح ضرورياً الاهتمام بتناغم ماركس مع قيم البشر كأرقى الكائنات، وملامسته الذات الإنسانية، بثرائها الروحي والمعرفي، وإطلاق ما فيها من مشاعر النبل والمقاومة ضد كل ما يمسخها، وفضحه لأوهام رأت في تلك الذات شراً فطرياً.
لم يعتبر ماركس القيم والأخلاق معلقة في الهواء، بل ربط بين جوهرها وبين إلغاء الاستغلال، وكشف عن تفاعلها مع الوظائف الاجتماعية التي تؤديها، معرّفاً بما يستعبد الشغيلة ويمنعها من تحرير عقلها وإرادتها في بناء عالم أفضل، وفاضحاً النزعة الاستهلاكية واغتراب الإنسان والأكاذيب الليبرالية حول الحريات والحقوق، ومؤكداً على ضرورة تلبية احتياجات الناس الأساسية وتبصيرهم بسبل تغيير الحياة الاجتماعية وتقليل أوقات العمل لصالح فرص المتع الروحية والمادية، مشّيداً رؤيته على تفسير الواقع من أجل تغييره وتدقيق المعارف عند تطبيقها. وقد فتح هذا كله كوّة في ظلمة التوحش الرأسمالي، ليشاع من خلالها التناغم الجمالي بين الناس، والدعوة لإنهاء الكراهية والطمع والخنوع، ولأنسنة التضامن الأممي ولإسقاط النزعات العدوانية وجعل البشر أكثر تضامناً وابداعاً.
وكمثقف عضوي وسليل عوائل مترفة، اختار ماركس، وكذلك زوجته، حياة الفقر والشقاء ثمناً لحريته في النضال من أجل ما يؤمن به، دون أن يتباهى بتلك التضحية أو تدفعه للتعصب أو للإنتهازية، فبقيّ زوجاً عاشقاً وأباً رؤوماً وصديقاً مخلصاً، ولم يتردد في تحمل العذاب والتشريد، حين مُنع من العمل مراراً ونُزعت عنه الجنسية ونفي من المانيا إلى فرنسا ومنها إلى بلجيكا ثم إلى فرنسا ثانية، ويوم تسلل إلى المانيا من جديد ليعتقلوه وينفوه إلى فرنسا، التي طردته هي الأخرى لينتقل إلى لندن، ويعيش فيها أقسى ظروف يمكن تصورها، في كوخ صغير رفقة زوجته وبناته الثلاث، حتى ماتت طفلته دون أن يجد ثمناً لعلاجها.
وكأكاديمي بارز، كان العلم بالنسبة لماركس حركة ديناميكية - تاريخية وقوة ثورية، وكان سروره عظيماً، كما قال عنه أنجلز وهو ينعاه، بأى اكتشاف جديد في حقل العلوم، خاصة حين يحدث تغييرا ثورياً مباشراً. وبديهي القول اليوم بأن الثورة الصناعية الرابعة من روبوتات ورقمنة وذكاء اصطناعي وإمكانيات السيطرة على الطبيعة وتسخير خيراتها لصالح الإنسان، تطورات متسقة تماماً مع أهدافه.
ولم يكن ضمير ماركس الأدبي، كما قال صديقه بول لافارغ، أقل صرامة عن ضميره العلمي، فهو لم ينشر شيئاً مالم يعالجه بكل دقة ويغيره عدة مرات ليتطابق مع الشكل، ولم يقبل أن يطلق سراح عمل لم يستكمل تماماً، وهو ما انعكس في صياغته لنتاجاته الفكرية وفي نصوصه الأدبية كروايته (العقرب وفيليكس) ومسرحيته الشعرية (دراما اليم) وفي مشاعر العشق الهائل للمرأة التي شاركته حياته ورافقته بقناعة في عذاباتها.