اخر الاخبار

روى الراحل الكبير شمران الياسري في إحدى حكاياته، إن شيوعياً، قد أنتدب للعمل، معلماً في أحدى القرى الفقيرة، ممن لا يجيد أحد من سكانها القراءة والكتابة. فتوجس شيخ القرية منه وفكر أن يوقع به. جمع الشيخ الفلاحين وأخبرهم بأن المعلم أمي وإنه سيثبت ذلك لهم. وحين جاء المعلم طلب الحاضرون من الرجلين كتابة (أفعى)، فكتب المعلم الكلمة في ورقة، ورسم الشيخ أفعى على ورقة أخرى، سائلاً الفلاحين عن أي الورقتين تمثل الأفعى، فأشاروا إلى ورقته. وهكذا تمّكن الشيخ المستّبد من عزل المعلم والنجاة من الدور التنويري الذي كان يمكن أن يلعبه. 

أتذكر هذه الحكاية دوماً حين أتابع ما يعانيه اليسار في الدول النامية من صعاب كبيرة، وحاجته إلى مواجهة التجهيل، السلاح الذي طالما إستخدمه المستغِلون، بمختلف لغاتهم وسحناتهم وثقافاتهم، لتغييب وعي الناس، عسى أن يخففوا من مخاطر الصراع الطبقي على سلطتهم وما ينهبوه من قوت المستغَلين.

ورغم أن هذا السلاح، بكل أشكاله وأدواته، خضع لعملية “تطور” تتناسب مع التقدم التقني الهائل، خاصة في زمن الفضائيات ووسائل التواصل الإجتماعي، فإنه بقي يحتفظ بأسسه المتمثلة بتعطيل العقل وسلب البشر القدرة على التفكير والتمييز، عبر فرض تصورات تخالف الحقيقة أو تجتزئها، وتبجيل تلك التصورات وتكفير المختلفين معها، ونشر المعلومات المغلوطة عنها، بشكل مكرر وممّل، وتعزيز النزعة النفعية لمتلقيها، وتسويق قدوات فاشلة وفاسدة عبر ضجيج من التمجيد لها، ونشر الخرافات التي تثير الخوف والشك وتهيّج العواطف وتُنشئ إنحيازات غير مجدية وتختلق معارك هامشية، تصرف الانتباه عن قضايا الناس المصيرية.

وكي يحقق التجهيل أهدافه في التأثير على الوعي الجمعي وإشغال الناس بالأوهام وإقناعهم بالواقع البائس، يعمل المستغِلون على إضعاف التعليم والمؤسسات الثقافية والذوق العام والخاص والقدرة على الإصغاء للمختلفين والحوار معهم. كما ينشرون القبح ويحاربون الجمال، في الأدب والفن والعمارة والأزياء والرياضة والفكر وحتى في نظافة الشوارع وتخطيط المدن.

وقد أثبتت السنوات الماضية، في العديد من الدول التي خضعت طويلاً لأفراد أو أقليات مستبدة، أن التجهيل الذي إُنتهج، سبّب تدميراً سياسياً وإقتصادياً ومعنوياً، وغيّب الوعي ومفاهيم الشفافية والمساءلة والتماسك الإجتماعي والتسامح وخطط التنمية والعدالة الإجتماعية، وأشاع الأمية (الأبجدية والمعرفية) ونزعات العنف وأعلى من شأنها.

ولهذا وجد اليسار نفسه غير قادر على قيادة الكادحين نحو مجتمع الحرية والعدالة ومن ثم إلى المجتمع الاشتراكي الخالي من كل أشكال الإستغلال، بدون النضال أولاً من أجل التنوير. فتبنى الشيوعيون في هذا العالم مشاريعه، كمدخل هام لقيام المجتمع الديمقراطي، وتمسكوا بإشتراطاته التي يعّد من أبرزها إعمال العقل في الواقع بكل تجلياته، والدفاع عن العدل في توزيع الثروة، وتجنب التهاون مع أي إنتهاك للحريات ولحقوق البشر، وتبني مبدأ المواطنة وقيمّها وما توفره من حقوق متساوية وما تتطلبه من واجبات، والإنحياز للتقدم العلمي والتفاعل مع ما أنتجته البشرية من منجزات فكرية وتقنية، وإستجلاء كل القيم العقلانية التي يزخر بها التراث وإستلهامها وإعتمادها أداة لتعبئة المستغلَين، وتوفير العمل والتعليم، و تحرير النساء وتنظيم علاقة الدين بالدولة ، وإقرار مفهوم الولاء للوطن وحده ، ومواجهة الهيمنة الأجنبية وتحسين شروط التعامل مع الخارج بما يخدم المصالح الوطنية، وإعتماد  الشرعية التي يكفلها القانون. كما كان عليهم دوماً أن يوثقوا علاقاتهم بالمثقفين والمتعلمين، المثقلين بهموم المعرفة والمستقبل، لاسيما من نجح منهم في رفض إغراءات المستغِلين وإرهابهم، وتخلى عن السلبية التي يدفعونه اليها.

عرض مقالات: