اخر الاخبار

صنّفت الأمم المتحدة العراق كأحد البلدان الخمسة الأولى الأكثر تأثراً بتغير المناخ في جميع أنحاء العالم، وأشارت إلى تزايد فقدانه للأراضي الصالحة للزراعة بسبب التملح وقلة هطول الأمطار وموجات الحر الطويلة والعواصف الترابية.

وتأتي هذه المتغيرات مع فقدان العراق مؤخراً لـ 90 في المائة من المياه التي كانت تتدفق إليه من إيران وحوالي 70 في المائة من المياه التي كانت تتدفق إليه من تركيا، مما سّبب في أزمة شديدة بالإمدادات المائية وترك تأثيرات سلبية قاسية على الإنتاجين الزراعي والحيواني، لاسيما حين ترافق هذا الحصار المائي مع جفاف استثنائي تعيشه البلاد هذا العام.

فبعد أن كانت حصة العراق من نهر دجلة تصل إلى 20.5 مليار متر مكعب ومن نهر الفرات 30 مليار متر مكعب عام 1933، بلغت في العام الفائت 9.7 و9.5 مليار متر مكعب فقط، على التوالي، فيما فقدت البلاد خلال الأعوام الثلاثة الماضية نحو 53 مليار متر مكعب من مخزونه المائي، وفق بيانات وزارة الموارد المائية. وقد دفع هذا الأمر الخطير بالبنك الدولي إلى التحذير من أن الموارد المائية ستصل إلى 20 بالمائة من احتياجات العراق بحلول عام 2050 في حال استمر الوضع على ما هو عليه. وأشار البنك إلى أن ذلك سيعني حرمان ثلث الأراضي المروية حاليا من حصتها المائية وتراجع الناتج المحلي بنسبة 4 بالمائة إضافة إلى تراجع الطلب على العمالة بنسبة لا تقل عن 12 بالمئة في الأنشطة الزراعية، وهجرة سبعة ملايين شخص، من العمل في هذا القطاع. كما حذرت وزارة الموارد المائية، في تقرير صادم، أصدرته في ديسمبر 2021، من أن استمرار فقدان المياه من نهري دجلة والفرات، اللذين يشكلان العمود الفقري لإمدادات المياه العذبة، يمكن أن يحّول البلاد إلى أرض بلا أنهار بحلول عام 2040.

كما جاءت هذه المتغيرات لتزيد من الصعوبات الكبيرة التي يواجهها الإنتاج الزراعي في البلاد، كوجود تربة رسوبية ذات خصوبة منخفضة، وارتفاع في معدلات تملح التربة، وغياب إستراتيجية توفير الأصناف المناسبة من البذور، القادرة على التكيف مع ظروف التربة والمناخ، وارتفاع معدلات الإصابة بأمراض الحيوان والآفات الزراعية.

وقد اشتدت جراء ذلك، الحاجة إلى حلول جذرية سريعة، تستند إلى معالجات داخلية وخارجية. فعلى الصعيد الإقليمي سعى العراق للإستفادة من العلاقات الجيدة مع أنقرة وطهران لفتح ملفات المشكلة وإيجاد حلول مشتركة لها.

العلاقات مع تركيا

برزت مشكلة العراق مع الإطلاقات المائية من تركيا، منذ سبعينيات القرن الماضي، حين أدى إكمال سد كيبان على نهر الفرات إلى انخفاض إيرادات العراق المائية منه إلى 9 مليار متر مكعب ولسنتين متتاليتين. ثم جاء مشروع تركيا لإنشاء سلسلة من 22 سداً كبيراً على نهر دجلة، لحجز المياه واستخدامها في الزراعة وفي إنتاج الطاقة الكهرومائية، كان آخرها سد أليسو، وإقامة خمسة سدود أخرى على نهر الفرات، أهمها سد اتاتورك، ليلحق أفدح الأضرار بالعراق، الذي استخدمت تركيا كما يبدو المياه كأداة للضغط عليه. فبعد أن وافقت على صرف 500 متر مكعب من المياه في الثانية، انخفض المعدل إلى حوالي 200 متر مكعب في الثانية من نهر دجلة و175 متر مكعب في الثانية من نهر الفرات، وهو ما قلل من كمية المياه المتاحة لكل عراقي، من 5000 متر مكعب في عام 1997 إلى 2400 متر مكعب في عام 2009.

وبهدف التوصل إلى اتفاق مع تركيا لرفع الإطلاقات المائية بواقع 400 متر مكعب في الثانية من نهر دجلة، و500 متر مكعب في الثانية من نهر الفرات، افتتحت بغداد جهودها في العام 2023، بتشكيل لجنة مشتركة بين برلماني البلدين، لمعالجة مشكلة المياه على أساس قواعد القانون الدولي التي تنظم تقسيم وتوزيع المياه بين الدول المتشاطئة بصورة عادلة. لكن الآمال التي توقعت أن تحقق هذه اللجنة أهدافها سرعان ما تبددت، على الرغم من العلاقات السياسية الودية، وتجاوز التبادل التجاري بين البلدين حاجز العشرين مليار دولار، حيث تستورد بغداد الكثير من المنتجات الزراعية والغذائية والتكنولوجية من تركيا، التي تنفذ شركاتها العديد من المشاريع الإستثمارية في العراق، وخاصة في مجال البناء والطرق والجسور، وحيث تسعى لضمان احتياجاتها من النفط والغاز العراقي.

ثم جاءت زيارة رئيس الوزراء إلى تركيا، كمحاولة ثانية، حيث أجرى مباحثات مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تركزت على تعزيز التعاون الاقتصادي، لكنها فشلت في تحقيق اختراق ما، لا في مشكلة المياه وتدفقات نهري دجلة والفرات ولا في القواعد العسكرية التي أقامتها تركيا داخل العراق، بذريعة محاربة معارضيها من أعضاء حزب العمال الكردستاني، والتي تعتبر حسب القانون الدولي، اعتداءً على السيادة العراقية.

ورغم القرار الذي اتخذه اردوغان، بزيادة كمية المياه المتدفقة من نهر دجلة لمدة شهر واحد، كبادرة حسن نية على الزيارة، فقد انتقدت انقرة بشدة بغداد على هدرها غير المسؤول للمياه، جراء استخدامها لطرق تقليدية ومتخلفة في الري. ولم تمض سوى أسابيع حتى أعلن وزير الموارد المائية العراقي عن أن الإطلاقات المائية التركية لنهر الفرات على الحدود السورية، ما زالت محدودة جداً، وهي أقل مما تم الاتفاق عليه بـ 50 بالمئة.

وفي مواجهة سعي تركيا لإخضاع العراق إلى إرادتها، عبر استخدام المياة كسلاح للتدجين، وإجهاض محاولات العراق اللجوء إلى التحكيم بشأن نزاع المياه مع أنقرة، وأخيراً إظهار القوة العسكرية والعمل على زعزعة استقرار العراق، وضرب أهداف عميقة داخل أراضيه، دعا بعض الخبراء بغداد لتبني استراتيجية كلية بدلاً من استراتيجية مجزأة، أي ربط قضية المياه مع الإستثمار والتجارة والطاقة والأمن. ويذكر هؤلاء أمثلة على ذلك بالسعي لجذب تركيا للمشاركة في طريق التنمية، او للإستثمار في المشاريع الزراعية وإنتاج الغذاء على نطاق واسع، إضافة للاستثمار في مجال الطاقة.

العلاقات مع ايران

شكلت اتفاقية الجزائر التي وقعها النظام المقبور مع شاه إيران العام 1975، الشرارة التي اندلع منها لهيب حرب الثمانينيات بين البلدين، حيث صنّفت الاتفاقية الأنهار الحدودية في ثلاث فئات، يتم في الفئة الاولى تقسيم المياه مناصفة بين البلدين، وفي الفئة الثانية وفق الاتفاقية العثمانية-الإيرانية لعام 1914، أما في الفئة الثالثة فعلى اساس حُسن الجوار والاحترام المتبادل. وأدى ذلك إلى ان تحصل إيران على نصف شط العرب، بعد ان كان بضفتيه، مُلكا للعراق.

وبقي ملف المياه بين البلدين مقلقاً وغامضاً بعد أن أكملت إيران سيطرتها على الروافد والأنهار المشتركة جميعها، وحبست مياه النهرين الكبيرين، الكرخة والكارون، وحجبتها من الوصول إلى مصباتها التقليدية في جنوب العراق. وكان لهذه الإجراءات آثارٌ مدمرة على الأهوار العراقية، وهي المساحات المغمورة بالمياه منذ آلاف السنين، والتي كانت موئل الحضارة السومرية.

لقد قامت إيران في العقود الأخيرة منفردة ودون التشاور مع الحكومة العراقية، بقطع العديد من مجاري الأنهار الحدودية المشتركة مع العراق، بلغت أكثر من أربعين نهراً حدودياً مشتركاً ما بين كبير وصغير إضافة لإقامة 109 سد وخفض الإطلاقات المائية بمقدار 15 مليار متر مكعب سنوياً. كما قامت بتحويل هذه المياه إلى داخل أراضيها، دون أي اعتبار إلى حقوق العراق التأريخية المكتسبة منذ القدم في هذه الأنهار، والتأثير البالغ لتلك الأعمال والأنشطة على الحياة الطبيعية والبيئية والأجتماعية فيه، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، لاسيما وأن بعض هذه الأنهار يشكل بطبيعته الجغرافية والتكوينية، منابع وروافد مهمة لنهري دجلة وشط العرب وللأهوار الجنوبية. كما تشكل هذه الأنهار عنصراً مهماً للحياة الطبيعية في المناطق والمدن والقصبات العراقية الحدودية. ومن الطبيعي أن يعّد ذلك مخالفة لمبادئ وقواعد استخدام مياه الأنهار المعترف بها دولياً.

وشهد العام الجاري زيارات عديدة لطهران، قام بها كبار المسؤولين العراقيين، وتمت في بعضها على الأقل مناقشة ملف المياه، حيث طالبوا بمراعاة حصة العراق في روافد نهري دجلة وشط العرب، وسمعوا من مضيفيهم وعوداً ايجابية ودعوات للتعاون من أجل الوصول إلى حلول. غير ان المطالبات والوعود، بقيت حبراً على ورق، رغم مرور أوقات جفاف قاسية على العراقيين.

ما العمل؟!

وهكذا تتطلب الأوضاع الخطرة التي يعيشها العراق على صعيد الأمن الغذائي والمائي، وضع إستراتيجية عاجلة، لا لإنتزاع حقوق البلد من المياه من دول المنبع وحسب الشرائع الدولية، بل وأيضاً تغيير وتحديث أنظمة الري والهدر الحاصل في المياه، وتخصيص استثمارات جادة لهذا الغرض.