اخر الاخبار

أعلنت وزارة الصحة، مؤخرا عن تعاقدها مع شركات قطاع خاص أجنبية لتنفيذ “مشروع إدارة المستشفيات الحديثة” في محافظتي كربلاء وميسان، واقترابها من التعاقد لادارة مستشفيات أخرى. وتقول الوزارة ان هذا المشروع يهدف الى “تحسين وتطوير الخدمات الصحية”، لكنها لم تكشف عن التفاصيل الكاملة للمشروع برغم ما يدور حوله من تساؤلات.

ويرى البعض، أنه لا بد من النهوض بالواقع الاداري في المستشفيات، فيما لا يستبعد البعض الاخر فشل المشروع أو تحوله الى فريسة لقوى المحاصصة التي أدمنت التدخل بالهيكل الاداري لمؤسسات وزارة الصحة وغيرها من الوزارات.

عقدان في كربلاء وميسان

تقول وزارة الصحة، إنّ هذا المشروع كان من المفترض أن يطبق في العام الماضي، وانه يمثل “تجربة أولى غير مسبوقة في العراق للشراكة بين قطاع خاص أجنبي وقطاع عام حكومي، فقد اضطرت الوزارة وبالتعاون مع وزارة التخطيط وبموافقة رئيس الوزراء إلى إنشاء وثائق قياسية جديدة أخذت فترة طويلة”.

ويتحدث وزير الصحة صالح الحسناوي عن الغاية من الاعتماد على الشركات الأجنبية لإدارة المستشفيات الجديدة والهادفة إلى “تطبيق الإدارة وفق نظام المعايير الأوروبية. وأن للمؤسسات الصحية مشاكل ادارية والحل الأفضل بالرغم من أنه يكلف الموازنة مبالغ غير قليلة، هو الاعتماد على شركات لها خبرة في إدارة المستشفيات، ولها باع طويل مثل شركة (ساندونادو) الإيطالية التي تدير مجموعة مستشفيات في إيطاليا وخارج إيطاليا”.

ويعتقد الوزير، أن هذه الشركات ستضع “نظام عمل جديداً وفق المعايير الأوروبية، من خلال تشغيل أساتذة واستشاريين يأتون الى العراق بالتعاون مع الأطباء العراقيين. كذلك تقديم خدمات للتدريب والصيانة”.

وكشف الوزير مؤخرا عن توقيع العقد الأول مع شركة إيطالية ضمن هذا المشروع، اعقبه الاعلان عن ابرام العقد الثاني مع شركة تركية لإدارة مستشفى في ميسان.

ويهدف المشروع الى ابرام عقود لادارة مستشفى الإمام الحسن المجتبى في كربلاء، مستشفى الإمام الصادق في الحلة، مستشفى الشهيد الحكيم في ميسان، مستشفى ذي قار التعليمي وكذلك مستشفى السياب في البصرة”.

مشكلة إدارية عميقة

وطرحت اسئلة حول الجدوى من القيام بهذه الخطوة في بلد شهد فشل تجارب تعاقدية كثيرة مع الشركات وخسر أموالا طائلة نتيجة سوء الادارة وعدم التخطيط السليم، واذا ما كانت هذه التعاقدات بداية نحو الخصخصة التي يسعى البعض الى ترسيخها في جميع القطاعات الحكومية؟

يقول الأستاذ في كلية طب الكندي الدكتور سعد الخزاعي، أن المستشفيات العراقية “تعاني من مشكلة عميقة ومتجذرة، تتمثل بعدم القدرة على ادارة المستشفيات بالطريقة المثلى لضمان تقديم خدمات صحية مناسبة للمراجعين”.

ويوضح الخزاعي في حديث مع “طريق الشعب”، أن هذه المشكلة “متعددة الأوجه ومنها بقاء العراق في النمط الاداري القديم من حيث النظم والضوابط الادارية، فضلا عن القصور الاداري للشخصيات التي يأتون بها لإدارة العديد من المستشفيات”، مضيفا ان “معيار الادارة الصحيحة  يعني أن يكون المريض راضيا خلال جميع مراحل علاجه، والتي تبدأ من التحاليل والفحوصات ووصولا الى العلاج”.

ويبيّن الدكتور، أن “المقارنة بين ثروات وامكانيات العراق وواقعه الصحي، تظهر تناقضا كبيرا رغم الميزانيات الهائلة التي رصدت لهذا القطاع”.

ويشير إلى وجود فوضى ومعوقات ادارية بسبب “الحلقات الروتينية الزائدة والمتعبة المتعلقة بالصلاحيات وصرف الأدوية وغيرها. وهذا يمكن حله مع الادارات الاحترافية النموذجية”.

ويلفت المتحدث إلى وجود أمر آخر يتعلق بالادارة، وهو ما يسمى “الدورة العلاجية للمريض، التي تبدأ من الدخول الى الطبيب ومن ثم التحاليل والفحوصات الشعاعية والعودة الى الطبيب واتخاذ القرار بشأن الحالات الطبية وتشخيص العلاج او المضي في طريق التدخلات الجراحية. لكن الواقع يؤكد ان عددا كبيرا من التحاليل والعلاجات غير موجودة، وهنالك خلل في مواعيد الاشعة ايضا، وهذا يتعلق بشكل مباشر بالادارة وبكيفية توظيف الموارد البشرية والامكانيات”.

ويرى الدكتور، أن اصحاب القرار “يدركون أن الخدمات الصحية هي حق دستوري، ولا يمكن ابقاؤها كما هي، ولذلك ادركت عمق الازمة ولجأت الى التعاقد على أمل تقديم نموذج اداري جديد يمكن تطويره وتعميمه”، لكنه يتساءل عن طبيعة المشروع “وهل اعطيت للمحافظات بعض الصلاحيات أم أن الأمر يدار من الوزارة حصرا؟”.

مخاوف كثيرة ومشروعة

ويرى مراقبون أن قضية التعاقد مع شركات قطاع خاص أجنبية لتأدية مهام الحكومة الأساسية أمر مرفوض، وهو لا ينفصل عن تدخلات الجهات السياسية المتنفذة والتي انحسر نفوذها المالي بعد محاصرة الانظمة المصرفية الدولية لتهريب الدولار. ويعتقدون أنه من الوارد أيضا خضوع هذه العقود إلى ماراثون تقاسم الوزارات وعقودها والحصول على نسب منها بعد أن تم تدمير وافشال القطاع الصحي خلال 20 عاما وايصاله الى هذا الحال.

ويقول حسين ناصر (موظف إداري في وزارة الصحة)، أن البلاد لم تشهد من قبل مثل هذه التعاقدات، وكان من المفترض أن تضع الحكومة في حساباتها وبرامجها كيفية النهوض بالقطاع الصحي ومعالجة الاخطاء، لا التوجه الى انفاق مبالغ كبيرة للهروب من هذا الواقع المرير.

ويضيف ناصر لـ”طريق الشعب”، أن “المختصين لا يتنظرون نتائج كبيرة من هذا المشروع لأن القطاع الصحي يسير في طريق مظلم وبنيته التحتية متهالكة، وهنالك شحّة أدوية وهجرة أطباء وفساد إداري ومالي لا يمكن السيطرة عليه بمثل هكذا سياسات”.

ويأمل ناصر أن تراجع الحكومة أسباب تردي الخدمات الصحية وإدارك حقيقة البلاء الذي أتت به المحاصصة.

ويلفت المتحدث إلى أن “ابقاء النظام الاداري في العراق على ما عليه من فشل وتعقيد، أدى إلى حرمان المواطنين من الرعاية الصحية المناسبة، وأن مصادر سياسية وهيئات دولية تجمع على أن نظام الرعاية الصحية الفاسد في العراق، يعكس بشكل واضح فشل أسلوب الحكم والادارة والعجز عن تجاوز الصراعات السياسية التي تلقي بظلالها على هذا القطاع”.

وبحسب تقارير دولية، فالعراق الذي يعتبر خامس أغنى دولة نفطية في العالم، لا يستطيع مواطنوه الحصول على الأدوية الأساسية والتأمين الصحي الذي يعالجهم من الأمراض. وبحسب تصنيف موقع “نومبيو” المعني بقياس المستوى المعيشي لدول العالم، فقد جاء العراق بالمرتبة الثالثة ضمن أسوأ الدول في مجال الرعاية الصحية الأولية للعام الماضي.

إداري أم فني؟

ويتحدث أحد الأطباء العاملين في مدينة الطب عن الفشل الاداري الكبير المفروض على مؤسسات وزارة الصحة والمستشفيات وتدخل الجهات المتنفذة بعملها واتيانها بأشخاص غير مؤهلين لاشغال مناصب ادارية حساسة.

ويبيّن الطبيب الذي طلب عدم الكشف عن أسمه، أن “الجميع يرى الحال الذي وصلت اليه المستشفيات، وهنالك فيديوهات تظهر وجود حيوانات داخل ممرات المستشفيات، والنفايات الطبية لم يحسم أمرها حتى الآن، على الرغم من استيراد الوزارة لأجهزة معنية بحل هذه المشكلة”.

ويتساءل الطبيب عن طبيعة مشروع ادارة المستشفيات، وهل هي عقود ادارية أم فنية، وما الذي سيقع على عاتق المواطن نظرا لدخول القطاع الخاص في المشهد؟ وأن “العقود الادارية يمكن أن تكون مناسبة نظرا للواقع الحالي الذي نعيشه وعدم الالتزام بالوصف الوظيفي للموظفين نتيجة لتدخل السياسيين بالادارة”.

ويعتبر الطبيب، أن “القوى المتنفذة أدمنت التدخل بالهيكل الاداري لوزارة الصحة وادارة المستشفيات، فأذا كانت العقود لشراء خدمات الادارة فهو أمر جيد ويجب أن تتحمل الدولة تكاليفها لا المواطنين وذلك من اجل تكوين نواة مستقبلية لتطوير الادارات ولكنه يبقى محط شك نظرا للواقع الحالي المرير، واذا شملت العقود الحصول على خدمات طبية فهذا أمر مكلف وغير مناسب حاليا”، لافتا إلى “عدم وجود ضمانات لنجاح المشروع وأن العراق لا يخضع للمعايير الايطالية أو الاوروبية لأنه يعيش واقعا مختلفا وهناك قوى سياسية على أرض الواقع ومكاتب اقتصادية تحاول مد أيديها في القضايا الخدمية وبالخصوص منها الطبية”.

ويعتقد الطبيب، أن إقدام الحكومة على هذه الخطوة هو “اعتراف واضح وصريح بالعجز والفشل والتراجع أمام مهمة وطنية تتطلب القضاء على الفشل الاداري وابتزاز المرضى من خلاله مقابل الخدمات”، مبينا أنه “كان على أصحاب القرار أن يرسموا نمطا جديدا للاستفادة القصوى من الموارد البشرية والكوادر الطبية والتمريضية التي عليها واجبات مثبتة قانونيا يجب استغلالها عن طريق الادارات الجيدة والحريصة”.

ومن المشاكل الادارية التي يشخصها الطبيب أثناء حديثه “عدم قيام الفنيين بواجباتهم عند اخذ الاشعة للمريض، وعلى الرغم من ان القانون ينص على وجود فني معين، لكن أهل المريض يقومون بأدوار غير معنيين بها وكذلك مع قضية سحب الدم وتوفير المغذيات وانابيب الادرار وذلك بسبب الادارات غير الحكيمة والفساد الذي ينهش بجسد القطاع الصحي والذي يدفع المواطنين لشراء كل شيء”.

ويمضي المتحدث بالقول: إنه “لو توفرت الارادة الحقيقية لما رأينا مثل هذه المشاريع، حيث هناك أنظمة صحية لكل مرض وبروتوكولات علاجية ثابتة يجب الالتزام بها، ولكن فشل الادارات يجعل من تنفيذ ذلك أمرا متعثرا، فضلا عن مشاكل النظافة ودخول الناس الى المستشفيات مع مرضاهم لعدم ثقتهم بالخدمات التي تقدم في الداخل”.

واعتبر الطبيب، أن “الحكومة تدرك ذلك ولا تريد ان تصطدم بمافيات الفساد المتغلغلة داخل المؤسسات، وهي تحاول كسب ود الشارع العراقي الغاضب، لذلك تلجأ الى عقد هكذا مشاريع مربحة انتخابيا، لكنها قد تكون بداية لخصخصة كل شيء والغاء جميع المهام الحكومية الأساسية”.

عرض مقالات: