اخر الاخبار

لم يتوقع الخمسيني أبو حسين، وهو من سكان إحدى القرى الزراعية في محافظة ميسان، أنه سيهجر أرضه يوما ويتوجه للعيش في مدينة، حتى حلّت أزمة المياه الحادة وأجهزت على ماشيته وزرعه.

 

يقول أبو حسين في حديث صحفي، أن هذه الظروف اضطرته وعائلته إلى ترك أرضهم والبحث عن سبيل عيش آخر، موضحا أنه كنت أملك أكثر من مائة دونم وفيرة الإنتاج في موسمي الصيف والشتاء، إلا أن الجفاف حوّلها إلى أرض قاحلة لا تصلح للزراعة. كما أن أزمة المياه تسببت في نفوق ماشيتنا، فخسرنا كل ما نملك، ولم يعد يتوفر لنا أي سبيل للعيش، الأمر الذي دفعنا باتجاه المدينة بحثاً عن فرصة عمل توفر لنا ولأبنائنا مصدر عيش بديل وكريم”.

وهجر آلاف المزارعين أراضي زراعية تبلغ مساحاتها ملايين الدونمات، بسبب شح المياه وعدم قدرة القطاع الزراعي الذي يعد مصدر عيشهم الرئيس، على تأمين المال اللازم لمواصلة عملهم، أو الكافي لإبقائهم في مناطقهم.

وكانت بعثة الأمم المتحدة في بغداد، قد أفادت في تقرير نشرته نهاية العام الماضي، بأن العراق من بين الدول الخمس الأكثر تضرراً من التغيرات المناخية على مستوى العالم، وفي المرتبة 39 بين الدول الأكثر إجهاداً في ملف المياه”.

 

اختفاء قرى

تؤكد وزارة التخطيط أن الهجرة إلى المدن مستمرة منذ عقود، لكنها زادت في السنوات الأخيرة بسبب قلة الإطلاقات المائية في نهري دجلة والفرات، فضلاً عن قلة هطول الأمطار في أنحاء البلاد.

ويقول الناطق باسم الوزارة، عبد الزهرة الهنداوي، ان فرق الوزارة تُشخّص باستمرار عمليات هجرة نحو المدن. وقد سجلت اختفاء بعض القرى نتيجة التغيرات المناخية، وانعدام فرص العمل. فهذه الظروف تدفع السكان إلى البحث عن خيارات بديلة في سوق العمل المتنوع في المدن”.

ويضيف في حديث صحفي قائلا أن الهجرة من مناطق الريف تسببت في إحداث تغيير ديموغرافي كبير، وترتب عليها نشوء وحدات سكنية غير نظامية أو عشوائية على أطراف مراكز المدن، وبين ضواحيها، ما أدى إلى ضغط كبير على البنية التحتية لتلك المدن، إلى جانب تفاقم الأزمات الاجتماعية بين الوافدين من المناطق الزراعية وسكان المدينة الأصليين، لافتا إلى أن أزمة المياه تسببت أيضاً في اختفاء بعض المهن، وظهور مهن أخرى، وهذا الأمر ولّد ضغطاً كبيراً على سوق العمل”.

ويوضح الهنداوي أن هناك إجراءات ستتخذها الحكومة لتخفيف حدة آثار التغير المناخي، تتضمن خططاً للتنمية الريفية وفقاً للظروف الراهنة. كما تمكنت وزارة التخطيط من عمل مسح ميداني للقرى والمناطق التي باتت غير مأهولة بالسكان نتيجة الجفاف، وهي حالياً في طور وضع خطة خمسية لمعالجة الأزمة في هذه المناطق”.

 

ميسان وذي قار وواسط الأكثر تضررا

تعتبر محافظات ميسان وذي قار وواسط، أكثر المحافظات تضرراً من أزمة المياه، تليها ديالى التي سجلت هجرات واسعة من القرى إلى مراكز المدن خلال الفترة الأخيرة.

محمد عبد الله (64 سنة)، هجر قريته الواقعة شمال شرقي ديالى، بعد جفاف أراضيها. إذ نزح إلى مدينة المقدادية، لكنه عانى كثيرا في الاندماج مع سكان المدينة بسبب اختلاف أساليب الحياة، والفارق الطبقي، واصفا حياة الريف بأنها كانت أكثر طمأنينة”.

ويوضح عبد الله في حديث صحفي، أنه كان يملك مصدر دخل دائم في القرية من خلال أرضه الزراعية، مبيناً أن جفاف نهر ديالى تسبب في جفاف الحياة في الأراضي المحيطة به، وارتفاع ملوحة الأرض. فصارت الحشرات تهاجم الناس بعد أن فقدت ما تسد به رمقها”.

ويتابع قوله: “لا أستطيع تخيل بلاد الرافدين بلا مياه، وعائلة الحاج عبد الله تشتري من البقال الخيار والطماطم، ولا تأكل من أرضها الممتدة إلى خاصرة النهر!”، لافتا إلى أن الجفاف تسبب في خسائر فادحة للمزارعين، وفاقم ارتفاع درجات الحرارة في الصيف، الأوضاع.. المعاناة باتت أكبر، مناخياً واقتصادياً، وحتى نفسياً داخل جميع القرى والأرياف”.

 

فلاحون يتحولون إلى سائقي تاكسي!

من جانبه، يقول رياض الناصري، وهو صاحب مكتب وساطة عقارية في حي الحسين بمدينة الناصرية، أن الناس يأتون من مختلف القرى، ومن الأهوار، بحثاً عن منازل للإيجار. لا يمر أسبوع إلا ويأتي إلينا أشخاص قادمون من القرى التي ضربها الجفاف، وبسبب ضعف حالتهم المادية يضطرون إلى السكن في منازل بسيطة بمناطق أطراف المدينة”.

ويضيف في حديث صحفي قائلا أن الكثيرين من الفلاحين الوافدين يتوجهون إلى العمل بسياراتهم الخاصة كسائقي تاكسي، لتوفير لقمة العيش، في محاولة للتكيف مع الوضع الجديد. أما الذين لا يمتلكون سيارات، فيعملون كعمال بناء بأجر يومي، وكل هذا جديد عليهم، كما أنه وضع محزن في الوقت نفسه”.

وفي 24 حزيران الماضي، أعلنت السلطات المحلية في ميسان عن جفاف أهوار العودة، وهي إحدى أكبر المسطحات المائية في المحافظة، مؤكدة انعدام التنوع الأحيائي فيها بالكامل، وهجرة سكان بعض القرى المحيطة بها.

 

آثار العواقب بعيدة المدى

إلى ذلك، يرى الخبير الاقتصادي أحمد الخفاجي أن عواقب التحديات المناخية التي يواجهها العراق، لا سيما تلك المتعلقة بندرة المياه، لها آثار بعيدة المدى، وتتطلب اتخاذ إجراءات رسمية منسقة لتخفيف الأزمة، وتجنب المزيد من النزوح، ومنع تفاقم المشكلات الاجتماعية القائمة”.

ويشدد في حديث صحفي على أهمية اتباع نهج ذي شقين: الأول تعزيز قدرة المناطق التي تشهد تدفقاً سكانياً، على التكيف، والآخر تقديم الدعم إلى المناطق الريفية التي تهاجر منها الأسر بسبب التدهور البيئي الشديد، وانعدام فرص العمل، والدمار الاقتصادي الكبير”.