اخر الاخبار

تحت شمس تموز الحارقة والهواء الجافّ الذي يلفح الوجوه، يلوذ الشاب البغدادي وسام عبد ورفاقه، بنهر دجلة، هربا من منازلهم الخانقة التي لا تزورها الكهرباء سوى ساعات معدودات خلال اليوم، في ظل درجة حرارة قاربت الـ 50 مئوية.

فانقطاع التيار الكهربائي، ومعه ماء الإسالة، عن البيوت، يعدمان أدنى فسحة لراحة هؤلاء الشباب. لذلك لا يبقى أمامهم سوى متنفس واحد، هو نهر دجلة الذي يصارع الجفاف!

وبدل أن يسبح وسام ورفاقه في النهر، يسيران عليه، من شاطئه حتى منتصفه، بسبب انخفاض مستوى المياه في بعض أجزائه إلى نسب غير مسبوقة.

وفي أطراف أخرى من النهر في منطقة الأعظمية، لا تزال المياه عميقة. وهنا يتنافس الشباب على القفز من أعلى أطلال مبنى قديم يشرف على النهر. لكن في مواقع أخرى تظهر مساحات من اليابسة على وجه الماء الضحل.

ولا تخلو السباحة في الأنهار من خطورة. فمثل كل موسم صيف، سجل العراق خلال الموسم الحالي، منذ بدايته، الكثير من حوادث الغرق في الأنهر والجداول التي يلجأ إليها الشباب والمراهقون هربا من حرارة الجو، في ظل انقطاع الكهرباء ساعات طويلة، إلى جانب عدم توفر مسابح نظامية، وهذه ان توفرت يكون الدخول إليها مقابل أجر مرتفع لا يناسب الفقراء وذوي الدخل المحدود.

وسام: عبرت النهر سيراً!

وسام البالغ من العمر 37 عاماً، يقول في حديث صحفي أنه يعيش في الأعظمية أبا عن جد، وطيلة سنوات عمره لم ير نهر دجلة بهذا الحال البائس، حيث مناسيب المياه تقل يوما بعد آخر، مؤكدا أن “المياه باتت تنحسر كل عام.. لقد عبرت النهر سيراً على قدميّ”!

ويشير وسام، وهو موظف في وزارة الكهرباء، إلى انهم يأتون إلى النهر للتسلية والتبرّد، ثم يعودون إليه ليلا “فلا كهرباء عندنا ولا ماء.. نأتي هنا كي نتنفس ونستريح”!

وتعكس هذه الحالة تداخل أزمات يعيشها بشكل يومي العراقيون، من تهالك قطاع الكهرباء والارتفاع المتواصل في درجات الحرارة في بلد تقول الأمم المتحدة إنه من الدول الخمس الأكثر تضرراً من آثار التغير المناخي، ومن نقص المياه.

وفي كلّ صيف، تتكرر المعاناة. إذ يصل انقطاع الكهرباء اليومي أحياناً إلى عشر ساعات، وأكثر في بعض الأوقات مع ارتفاع درجات الحرارة.

وماذا عن الغرق؟!

كثيرا ما تحذر الشرطة النهرية، الشباب والمراهقين من السباحة في الأنهار، وذلك نظرا لزيادة حالات الغرق، ناهيك عن المخاطر الصحية الناجمة عن تلوّث مياه النهر، بسبب اختلاطها مع النفايات ومياه الصرف الصحي، التي لا تزال ترمى في الأنهار دون معالجة.

ورغم هذه التحذيرات، يواصل الشباب في كثير من المدن والأرياف، ممارسة السباحة في الأنهار، سواء بدافع المتعة أم هربا من حرارة الجو.

يقول الشاب محمد سالم، أنه ورفاقه يقضون ساعات النهار في ممارسة السباحة، ولا يخشون من الغرق! مبينا لـ “طريق الشعب”، أن “هذه الهواية هي ملاذنا الوحيد.. بيوتنا خانقة لا كهرباء فيها ولا ماء”!

وينوّه الشاب إلى أنه “لا تتوفر مسابح نظامية كافية، وحتى إن توفرت سيكون من الصعب علينا الدخول إليها، بسبب ارتفاع أجورها. لذلك لم يبق أمامنا ملاذ سوى النهر”.

وفي السياق، تنقل وكالات أنباء عن منتسب في الشرطة النهرية قوله: “اننا نطلب بإلحاح شديد من الشباب أن يتوقفوا عن هذه المخاطرة. فالجثث الغارقة التي ننتشلها، جميعها لشباب بعمر الورد.. الحوادث مؤلمة جداً وتدمي القلب”.

هل ستندثر هواية السباحة؟

نشر موقع “المونيتور” الخبري الأمريكي، أخيرا، تقريرا بعنوان “العراقيون يتغلبون على حرارة الصيف بالسباحة في نهر دجلة المتقلص”.

وجاء في التقرير، أنه “مع درجات الحرارة الحارقة وانقطاع التيار الكهربائي، يتجه العراقيون إلى السباحة في نهر دجلة، لكن مع جفاف الأنهار يبدو أن العراقيين سوف يفقدون هوايتهم قريبا”.

ونقل التقرير عن شباب يقفون على جسر فوق دجلة، قولهم انهم يخشون من جفاف هذا “النهر الأسطوري”، وأنهم يعانون تدهور التيار الكهربائي وارتفاع درجات الحرارة ونقصا حادا في المياه.

وأشار التقرير إلى أنه “في أجزاء من نهر دجلة في بغداد، لا تزال المياه عميقة بما يتيح للشباب الاستمتاع بالغوص، لكن في أماكن أخرى تبرز جزر جديدة من الأرض وسط النهر، بسبب عوامل الجفاف”.

يلعبون الكرة وسط النهر!

في صيف العام الماضي 2022، انخفضت مستويات المياه في نهر دجلة كثيرًا إلى درجة أن وكالة أنباء “فرانس برس” صورت شباناً يلعبون الكرة الطائرة وسط النهر. وحينها قالت وزارة الموارد المائية إن السبب هو وجود ترسبات متراكمة في النهر تعمل السلطات على إزالتها. ويتحدث طه عدي، الذي ولد قبل 34 عاما ونشأ قرب دجلة في بغداد، وورث مهنة صيد الأسماك عن جده ووالده، عن الحال المؤسف الذي وصل إليه النهر اليوم. ويقول في حديث صحفي أنه “في العامين الأخيرين، ازداد الجفاف، وفي بعض المناطق صار الناس يعبرون إلى الضفة الأخرى سيرا على الأقدام”! ويتذكر طه كيف كانت مياه النهر تصل حتى شرفة منزل جده الأثري، الذي ما زال مطلا على النهر “لكنها الآن دون ذلك بكثير”، لافتا إلى أن أباه وأعمامه رووا له كيف كانوا يرسون زوارقهم قرب المنزل حينما كانت المياه ملاصقة له. ويتابع قوله أنه “حتى السمك لم يعد متوفرا.. لا يوجد سمك، سوى الصغير منه، لأنه لا يوجد ماء”!