اخر الاخبار

لم تبدِ الحكومات المتعاقبة منذ العام 2003 والى اليوم أيَّ اهتمامٍ بملف البيئة، بل ركنته إلى جانب الأزمات المتعددة على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن الآثار الخطرة الناجمة عن اللامبالاة أضحت ظاهرة للعيان، بل انعكست بشكل مباشر في حياة المواطنين: عواصف ترابية، تلوث، جفاف، وتصحر، الأمر الذي أثّر سلبا حتى على الإنتاج الزراعي والحيواني.

ويعد يوم البيئة العالمي لعام 2022 أحد أكبر الأيام الدولية احتفالاً، حيث يتم الاحتفال بيوم البيئة العالمي في يوم 5 حزيران من كل عام منذ العام 1973، وذلك بإشراك الحكومات والأعمال التجارية والمواطنين لمعالجة القضايا البيئية الملحة.

وسيتم الاحتفال بيوم البيئة العالمي لعام 2022 تحت شعار (لا نملك سوى أرض واحدة).

و(لا نملك سوى أرض واحدة) كان شعار مؤتمر ستوكهولم للعام 1972، الذي شهد إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وبعد مرور خمسين عاماً، مع الأزمات الكوكبية الثلاث وهي تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي واستمرار تعرض كوكبنا للخطر من جراء التلوث والنفايات، أصبح الشعار وثيق الصلة أكثر من أي وقت مضى.

حقبة جديدة

وكان رئيس الجمهورية برهم صالح أعلن في كلمة ألقاها، مؤخراً، في القمة الافتراضية عن طموح المناخ، عن خطط وجهود حكومية لتحجيم الآثار السلبية للتغيرات المناخية، تقوم على “التوجه نحو حقبة جديدة فيدعم الطاقات المتجددة وتخفيض انبعاث الكربون والتلوث”، موضحا ان “البرلمان العراقي صوت في 22 ايلول 2020 على الانضمام إلى اتفاق باريس للمناخ، ما يعني الشروع في حقبة جديدة ونقلة نوعية تبنى على التنوع الاقتصادي، وان العراق شرع بكتابة وثيقة الإسهامات الوطنية NDC)) واعتبارها السياسة العليا للبلاد حول التغيرات المناخية، تأسيساً للاقتصاد الأخضر والمستديم”.

ملف مغيّب

وعن الاهتمام بهذا الملف، قال مدير معهد نيسان المعني بالعدالة البيئية فلاح الأميري، انه “لم يكن هناك أي اهتمام بملف البيئة سواء في النظام السابق وما بعده، فيما أثر تراكم الازمات في ظل تعاقب الحكومات، بشكل كبير، على الوضع البيئي في العراق”.

وقال في حديثه لـ “طريق الشعب”، انه “الى الآن لا يوجد أي كيان وزاري مستقل لوزارة البيئة، وجاسم الفلاحي هو في منصب وزير، لكنه وكيل شؤون البيئة في وزارة الصحة. ونحن ننتظر تشكيل الحكومة لكي نرى وزارة بيئة مستقلة بعملها، وتمتلك كيانها الخاص”.

وأضاف مدير المعهد، ان “النظام السياسي في فكره الوظيفي الحكومي يعتقد ان موضوعات البيئة هي عملية زيادة بالإنفاق، بينما الاهتمام بموضوعات البيئة هو تعظيم للإيراد، لكن طريقة الاستثمار بالاتجاه الصحيح غير متوفرة؛ فالوزارة سابقا كانت عبارة عن مؤسسة استهلاكية، بينما هي بالأصل إنتاجية إذا تم استثمارها بطريقة صحيحة وسياسة حكومية سليمة”.

وعن التحديات قال: أنه “في العراق تدار الأمور بنظام الفزعة، عندما نقع في مشكلة يجري التحرك، فلا يوجد عمل استراتيجي ومخطط مسبق مثل الخطط الخمسية او العشرية أو الخمسينية مثلما وضعت بعض الدول، وحتى الأولويات في تنفيذ المشاريع لا نرى أولوية للبيئة. وهذا الإهمال المتراكم من قبل الحكومة تجاه البيئة، أوصلنا الى مرحلة قريبة من الانهيار”.

شركات النفط ملوث آخر

وبالنسبة للملوثات، فقد شخّص المتحدث وجود تلوث ثلاثي مزدوج يقتصر على الماء والهواء والتربة، “فنحن بالأصل لا نمتلك ماء صالحا للاستهلاك البشري سواء للسقي ام الشرب وغيره، ويختلف نسبيا بين شمال العراق ووسطه وجنوبه، حتى بعد تصفيته، فهو لا يصلح وفق المعايير والمواصفات الدولية، وبتلوثه تتأثر التربة أيضا”.

وارجع سبب تلوث الهواء الى الاستخراج النفطي: “الحقول النفطية قريبة على المناطق السكانية، الامر الذي سبب ارتفاعا في نسبة الإصابة بأمراض السرطان والجهاز التنفسي والامراض الجلدية وتساقط الشعر، والحكومة لديها علم بذلك، لكن يتم غض النظر لان الاقتصاد يعتمد بشكل كلي على الإنتاج النفطي”.

وأوضح الاميري لمراسل “طريق الشعب”، ان “المشاريع الحكومية المنجزة لا تضع في تخطيطها أولويات للبيئة، فتشكل محافظة البصرة والجنوب 95 بالمائة من إيرادات الموازنة الاتحادية للعراق باعتبار الاقتصاد العراقي هو احادي ريعي نفطي. وهذه المحافظات رغم انها تنتج نسبة عالية من النفط، الا انه لا توجد مشاريع تهدف لحماية الواقع البيئي جراء التلوث من الانبعاثات الكربونية المصاحبة لاستخراج النفط”.

وتوقف في حديثه عند ان “شركات النفط الوطنية والأجنبية، التي لا تراعي وضع فلاتر تصفية على المشاعل النارية، وعدم الشفافية في عقود جولات التراخيص، ما أدى الى تقاعس هذه الشركات عن الاهتمام بموضوعة البيئة، لأنها مكلفة”.

ولفت الى انه في فترة الشتاء “مع وجود الابخرة والعوالق الكربونية في سماء المحافظات المنتجة للنفط، ومع هطول الامطار تتشكل لدينا امطار حامضية، وهذه تؤثر بشكل مباشر على التربة، حيث تصبح عديمة الحياة، ولا يستطيع أي فلاح استخدامها، وان تم استخدامها فالمنتج الزراعي سيكون ملوثا، فضلا عن ملوثات المقذوفات الحربية واليورانيوم والاشعاعات”.

وخلص الى أن “هناك الكثير من الحلول، لكننا نحتاج الى قرار شجاع وإدارة غير متحزبة، فالمسؤول الذي يأتي عن طريق المحاصصة، على الأغلب يكون غير كفوء وضعيفا وغير مهني”.

التدهور البيئي تاريخياً

وعلى الصعيد ذاته، استعرض الأكاديمي في جامعة البصرة شكري الحسن، مسار التدهور البيئي قائلا: ان الحديث عن التدهور البيئي في العراق وبشكل خاص الغطاء النباتي، هو موضوع طويل جدا ومتشعب واسبابه متداخلة مع بعضها، فالتدهور البيئي بدأت ملامحه في البلاد منذ التنقيب عن النفط وتوسع الصناعة النفطية، التي ازدهرت بالسبعينيات والحرب العراقية الإيرانية، ففقدنا الكثير من خصائص البيئة الطبيعية نتيجة للأعمال العسكرية، والتي أدت الى القضاء على هذه المعالم الطبيعية وتدميرها.

واسترسل في حديث خصّ به “طريق الشعب”، عن تصاعد هذا التدهور، قائلا انه “في حقبة التسعينيات تهاوت البنى التحتية في البلاد، واستمر الانحدار البيئي حتى بعد العام 2003، الى أن وصلنا الى وضعنا الحالي. فالبيئة للأسف الشديد لم تتعاف، بل ازدادت سقما والسبب الرئيسي في ذلك هو عدم الالتفات لها لا من قبل السلطات الحكومية المتعاقبة، ولا من قبل الناس أنفسهم. والجميع الان يدفع ثمن هذا الإهمال بشكل مباشر او غير مباشر، سواء أدركناه ام لم ندرك، ولكننا ندفع ثمنا باهضا حتما”.

خسائر فادحة

وقال الحسن وهو خبير بالشؤون البيئية: ان العراق عموما هو شحيح في غطائه النباتي ومعظم أراضيه هي جافة ومتصحرة والغطاء النباتي متناثر ومحدود التواجد.

وعن غابات العراق علّق بالقول “كنا نمتلك غابات في اقصى شمال العراق، وهذه الغابات بمرور السنين ونتيجة للأسباب العديدة مثل الحروب والإهمال الحكومي وجهل الكثير من الناس والتلوث والجفاف والتغيرات المناخية، تراجعت ما ادى الى تقلص الغطاء النباتي وفقدان الكثير منها، بالأخص غابات الموصل”.

وطبقا للخبير فإنه “في الجنوب كان تقلص الغطاء النباتي واضحا، على الرغم من قلته؛ اذ فقدنا الكثير من النباتات التي كانت موجودة في اهوار جنوب العراق، منها بسبب عمليات التجفيف التي حدثت في التسعينيات، على الرغم من الإنعاش المحدود بعد العام 2003 والذي هو بواقع الحال لم يعِد كل النباتات والكائنات الحية الموجودة في الاهوار بالسابق. وما زلنا نفتقد الكثير من الأنواع التي أصبحت عودتها مستحيلة”.

وبالنسبة لغابات النخيل في البصرة فقد ذكر: “بحسب الإحصاءات فانه في العام 1950 كانت في البصرة قرابة 15 مليون نخلة، واليوم نتيجة لتملح التربة والتوسع الافقي للسكان، تقلص عدد هذه الغابات الى اقل من مليون نخلة، وهو رقم مفزع ومثير للأسى”.

وبحسب الخبير فان البصرة فقدت “طبقاً للأرقام الرسمية قرابة 650 ألف دونم من المزارع والأراضي الزراعية بسبب اعمال تنقيب النفط. وهذه الخسارات بكل تأكيد سترتد عكسيا على البيئة والنظام البيئي. وممكن ان تزيد من تفاقم مساحة التصحر وموجات الجفاف وارتفاع درجات الحرارة، ولها تداعيات كثيرة أخرى”.

هل نحن قادرون على ذلك؟

واشار الحسن الى أن الحكومة مطالبة بـ”عمل طويل وشاق، لان المشكلات والتحديات البيئية الموجودة في العراق الان أصبحت متراكمة”.

ودعا المتحدث الى وضع خطة استراتيجية “تشترك فيها أطراف كثيرة من وزارات معنية، ومنظمات مجتمع مدني، لأجل العمل خطوة بخطوة على التخفيف من مخاطر التلوث، وإيقاف عجلة التدهور البيئي المتسارعة، وانهاء مصادر التلوث بمختلف اشكالها، ووقف حرق الغاز من مشاعل النفط، وتجريم المساس بالبيئة والكائنات الحية وانشاء محميات طبيعية”، مبينا أن الخطوة الاولى تبدأ بـ”تشريع قوانين رادعة، وليس مجرد كلام نظري لا ينفذ”.

وفي نهاية حديثه، تساءل الحسن: “هل نحن قادرون على ذلك؟ وهل لدينا حكومة جادة في معالجة تداعيات هذا الملف؟”.

لجنة مكافحة التصحر

وقد أعلنت وزارة الزراعة، تشكيل لجان لزيادة الغطاء النباتي وتخصيص مبالغ طارئة لمكافحة التصحر وتثبيت الكثبان الرملية في 3 محافظات جنوبي البلاد.

وقال الوكيل الفني للوزارة، ميثاق عبد الحسن، إن “الأمانة العامة لمجلس الوزراء شكلت لجانا لزيادة الغطاء النباتي، ليس فقط لمنع ظاهرة العواصف الترابية، وإنما لتقليل أثرها وأثر درجات التلوث الأخرى من عوادم السيارات وغير ذلك”، مشيرا الى ان وزارته “لديها مشروع لمكافحة التصحر، رصدت له مبالغ طارئة ورقعته الجغرافية تقع بين محافظات الديوانية والمثنى وذي قار. وتلك المحاذية للطريق الدولي، وتصل مساحته إلى ما يقارب 400.000 دونم”.

27 ألف تجاوز!

الى ذلك، أكد عضو الهيئة الإدارية لمنظمة حماة دجلة، نصير باقر: ان “اهم التحديات التي تواجه الملف البيئي في العراق، هي عدم إدراك الحكومة والمسؤولين عن ملف البيئة والمياه حجم المخاطر والمسؤولية”، محذرا من “تغيرات مناخية” سيتأثر بها العراق بشكل كبير، من ناحية الجفاف والتصحر وارتفاع درجات الحرارة، مستشهدا بـ”العواصف الترابية على مدى الخطر الذي نعيشه”.

وعن اتفاقية باريس، قال ان “انعكاسات الاتفاقية غير موجودة على الواقع البيئي العراقي، ولدينا تشريعات بخصوص حماية البيئة مثل قانون 27 لسنة 2009 والى الآن لم يتم العمل به، ولدينا مشكلة المياه والتوزيع العادل لها، فالمفاوض العراقي لا يدرك حجم المهمة الملقاة على عاتقه، وإيران لا تتعاطى مع المفاوض العراقي بشأن الحديث عن الماء، والخلل يكمن بأصحاب القرار والحكومة على وجه التحديد، لان المعني بالشأن لا يستوعب حجم القضية”.

وبالنسبة للتجاوزات بيّن باقر أنها “تكثر أيضا في الاقضية والنواحي. لدينا المنظومات التي تربط على النهر لغرض الري، وعلى نهر دجلة هناك معامل ومؤسسات دولة هي بذات نفسها تتجاوز على النهر وتلوثه”، مضيفا انهم رصدوا “27 الف تجاوز، فمدينة الطب تعتبر من أخطر مصادر تلوث دجلة في بغداد، وتوصيف التجاوز يطلق على كل ما يؤثر على طبيعة النهر، مثل منظومات السقي ومخلفات المستشفيات والمصانع، والسدود البسيطة التي تقيمها العشائر في القرى، ومن الملوثات الأخرى هي جثث الناس، فمن اهم مصادر تلوث المياه هي أشلاء الناس، كما في سبايكر”.

ونتيجة للجفاف، قالت الحكومة العراقية في بيان طالعته “طريق الشعب”، إن “مساحة الأراضي الزراعية المزروعة بالمحاصيل لموسم 2021 - 2022 ستغطي فقط 50 بالمئة من المساحة المزروعة العام الماضي”.

معالجة المياه

من جانبه، قال الدكتور علي اللامي وهو خبير بيئي ان معظم الامراض التي تسجل هي سببها “تلوث المياه فالكثير من الامراض الفيروسية تنتقل عن طريق المياه الملوثة، وفي الآونة الأخيرة شاهدنا ارتفاع المنسوب الملحي في مياه شط العرب، الذي أثر على الزراعة والاستخدام البشري، وكاد ان يتسبب بكارثة إنسانية”.

وعن المطلوب أكد اللامي في حديث خصّ به “طريق الشعب”، انه “يجب قبل إطلاق أي مياه الى الأنهار أن تعالج وتنقى وتعالج من التلوث، قبل ان يتم اطلاقها. كذلك على كل نشاط سواء كان زراعيا ام صناعيا ام خدميا، أن تعالج مخلفاته السائلة والغازية والصلبة قبل ان يطلقها الى البيئة”.

وشدد على ضرورة ايجاد “معامل تدوير نفايات، لان كثيرا من النفايات تذهب الى الطمر غير الصحي، أو يتم حرقها بطريقة عشوائية، بينما يجب ان تكون هناك إعادة تدوير لها، وفي نفس الوقت تتم الاستفادة منها كمواد أولية. وفي ما يتعلق بالبصرة فمن من الضروري ان تلتزم شركات النفط بالمعايير البيئية الصحية للإنتاج النفطي، وان تأخذ تحوطات السلامة والأمان على صحة الناس والبيئة”.

عرض مقالات: