اخر الاخبار

كثيرا ما تُكشف كواليس الصفقات السياسية وما يماثلها من قبل إعلام خارج الحدود، بينما لا تقدر وسائلنا الاعلامية على ممارسة هذا الدور للصحافة الاستقصائية، لأسباب كثيرة، تقف في مقدمتها البيئة الصحفية غير الآمنة وندرة التمويل المالي، والخطوط الحمراء التي يحميها السلاح المنفلت.

وفي ظل الممارسات القمعية والتضييق الذي تتعرض له الصحافة التقليدية في البلاد، تغيب أساسيات المهمة لقيام هذه الصحافة المهمة، مثل حق الوصول للمعلومة والشفافية والمساءلة وحماية الصحفيين من التصفية والتهديد او جرجرتهم في المحاكم. ومن الطبيعي ان يكون هذا هو الحال الذي لا سلطة فيه للسلطة الرابعة التي تعاني نتيجة تركات الماضي وسياسات لا معنى لها او أساس، تقيد الحريات الصحفية. في هذا التقرير الموسع تستطلع «طريق الشعب»، آراء مجموعة من الصحفيين العراقيين العاملين في الصحافة الاستقصائية، حول أسباب تعثرها ومتطلبات حمايتها، والنهوض بها في بلد يسمى نظامه بـ»الديمقراطي»، بينما تُنتهك فيه حرية الصحافة بمختلف الوسائل.

ما أهميتها؟

يصف رئيس جمعية الدفاع عن حرية الصحافة، مصطفى ناصر، الصحافة الاستقصائية، بانها ارفع انواع الصحافة في العالم.

ويؤكد انه لا يمكن ان نشهد نضوجا او نموا في مجال الصحافة الاستقصائية في العراق الذي يعاني من مشاكل كبيرة في صناعة اعلام او صحافة مستقلة وتحقيق او بناء السلطة الرابعة.

ويوضح اهمية الصحافة الاستقصائية قائلا «تكمن اهميتها في الدقة والموضوعية التي تتأتى من البحث العميق عن الموضوعات المتعلقة بالملف، وتساعد بشكل كبير في كشف ملفات الفساد وتعزيز مبدأ الشفافية؛ والتي يؤمن بها العراق من خلال توقيعه مواثيق ومعاهدات دولية لحماية وتعزيز مبدأ الشفافية في كشف المعلومات».

ويردف ناصر كلامه لـ «طريق الشعب»، بأن هناك «عملا استقصائيا كبيرا في العراق، ولكنه لا يزال ضئيلا جدا، بالنظر الى حجم وسائل الإعلام وكم الصحفيين، على الرغم من ضعف الصحافة المستقلة بالنظر إلى الأنماط السياسية المفروضة على قطاع الصحافة والإعلام في البلد».

ويشير الى ان العمل الاستقصائي «يتطلب وقتا طويلا وجهدا كبيرا واجورا مناسبة لحجم الجهد المبذول في هذا العمل؛ ففي جميع دول العالم الحر هناك صحفيون استقصائيون يمنحون اموالا توازي مرتبات اي محرر او مراسل يومي لمدة ثلاثة أشهر مقدما، من اجل ان ينجز تحقيقا استقصائيا واحدا في غضون هذه الفترة مثلا».

ويلفت الى ان هذا النمط من العمل «لا يمكن ان تتقبله وسائل الاعلام العراقية، لأنها لا تدرك أهمية الصحافة الاستقصائية، وتتعامل مع الصحفيين والمراسلين كأي عامل بناء او مصنع يجب ان ينتج كل يوم كماً مقدراً مما يريده رب العمل».

ويختتم حديثه بان العمل الاستقصائي يكشف القدر الأكبر من الحقيقة، ويكافح التضليل والتزييف المنتشر في العراق بشكل كبير.

صحافة مزعجة للسلطات

وفي الوجهة نفسها، يقول مدير مركز رؤية بغداد للإعلام والدراسات، الصحفي محمود النجار: ان الصحافة الاستقصائية هي أحد أبرز وأكثر انواع الصحافة تأثيراً، وهي الاكثر حساسية في كشفها لملفات مهمة في البلد، تتعلق بالفساد وملفات المحاصصة وانتهاكات حقوق الانسان وملفات تتعلق بانهيار الوضع الامني او اختراق المؤسسات العراقية الأمنية وغيرها.

ويصف النجار في حديثه مع «طريق الشعب»، هذا الفن من الاعلام بانه «صحافة مزعجة للسلطات، كونها تصل الى اعماق القصة وتكشف عن اللاعبين الرئيسيين، بالإضافة الى نشرها الوثائق والدلائل كأن تكون ملفات مرئية او وثائق مكتوبة ومحررة وتسجيلات صوتية مسربة»، لافتا إلى أنها «تعتبر من أعمق أنواع الصحافة، لذلك نعتقد أن وجود صحافة من هذا النوع في العراق مهم جداً، فهي تساهم في تعزيز مبدأ المساءلة والعدالة والشفافية وتطبيقها».

ويعزو النجار أسباب تعثر الصحافة الاستقصائية في العراق الى أنها تعاني «من عدم وجود معلومات ومراكز بحوث ودراسات من الممكن ان تفيد هذه الصحافة، لأنها تتعامل مع الوثائق والارشفة، حيث ان الصحفي الاستقصائي يحلل الوثائق التي تصل اليه ويربطها ببعض، ويستخرج البيانات ويكشف عن الاسماء وارتباطاتها مع الظروف المتعلقة بالقصة المراد التحقيق فيها».

صحافة مغيبة 

ويؤكد مدير مركز رؤية بغداد للأعلام والدراسات ان «الصحافة الاستقصائية مغيبة في العراق، وذلك لان الصحفي الاستقصائي من الممكن ان يواجه نتيجة كشفه لملف معين، دعاوى قضائية في الكثير من الأحيان. هذا النوع من الصحافة خطر جداً في العراق، لأن الصحفي الاستقصائي مهدد ومعرض للتصفية والتهجير والمساومة بأهله وأصدقائه».

ويؤشر النجار عدم وجود أرضية وفرشة قوانين تحمي الصحفيين الاستقصائيين، علاوة على ذلك فهم غير قادرين على الوصول للمعلومات فكيف يمكن ان تتطور هذه الصحافة.

ويؤكد ضرورة «الاهتمام بها وتطوير الكوادر، لا سيما الشبابية منهم، وتوجيههم نحو الصحافة الاستقصائية، مع وجود مراكز بحوث ودراسات حكومية او غير حكومية توصل المعلومات للصحفيين الاستقصائيين، إضافة الى وجود هيئات تحمي من يكشف عن الملفات الحساسة، وأخيرا ان تكون هناك وكالات ومنظمات ترعى الصحافة الاستقصائية وتحاول ان تطور من إمكانيات وقدرات المهتمين بهذا النوع من الصحافة».

اعباء كثيرة

أما الصحفي علي المياح فيجد ان تجربة الصحافة الاستقصائية في العراق، «ما زالت متعثرة. وعلى ارض الواقع نحن لا نرى تحقيقات رغم الكم الهائل من الفساد والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية. كما لم نر أثرا ملموسا عدا تجارب بسيطة وعدد قليل من الصحفيين يتعاونون مع منظمات دولية معنية بالشأن مثل تجربة نيريج التي لا تزال فتية وحديثة».

ويشير المياح ضمن حديثه مع «طريق الشعب»، الى انه «لا توجد بيئة لعمل الصحافة الاستقصائية في العراق؛ فالتحقيق الاستقصائي بالدرجة الاساس يعتمد على اختراق مناطق غير مضاءة، وكشف معلومات يتم التكتم عنها، هي اشبه بمناهج بحث وتحقيق جنائي».

وعن أبرز متطلبات هذا النوع من الصحافة يقول: إن «حق الوصول للمعلومة هو عبء اخر؛ ففي الدول المتقدمة يصل الصحفي بسهولة للمعلومة التي يحتاجها ويحقق فيها. بينما في العراق هذا غير موجود، لذلك التجربة في العراق مثقلة نظرا لعدم وجود شفافية في المؤسسات» بحسب قوله.

ويستعرض المياح قصته حين قرر ان يعمل على تحقيق صحافي يتعلق بملف المدارس الصينية؛ حيث يمتلك روايات عديدة تتعلق بالفساد في هذا الملف والرشاوى وتدخلات الجهات المسلحة في هذا الملف. يقول «عندما غصت في تفاصيل الملف وصلت الى نتيجة خطيرة. إذ أن استمرار العمل في الملف يعني صداما مع الميليشيات المسلحة المستفيدة والواجهات الاقتصادية للقوى المتنفذة».

وينوه المياح بان «التحقيق حتى لو كان بعيدا عن السلطة، سيقودك بطريقة او بأخرى الى مواجهة مع القوى المتنفذة، التي تستحكم وتسيطر على القطاعات المختلفة في البلاد».

ويزيد بالقول ان هناك ازدواجية في الافصاح عن المعلومة: «90 في المائة من الاعلام في العراق مسيّس وموجه، والمسؤول او الشخصية السياسية تتعاون مع الصحفي الذي يعمل في مؤسسة قريبة من توجهه السياسي والعكس صحيح. بينما هناك اعلاميون على مستوى عالٍ يصلون الى المعلومة بطريقة أسهل، باعتبار انهم مشاركون في صفقة ما، فتسرّب عن طريقهم معلومات لإثارة قضية ما او استخدامهم كأداة للتسقيط السياسي».

ويتابع قائلاً: ان أبرز ما نحتاجه اليوم لخلق صحافة استقصائية حقيقية في العراق هو «حرية تعبير»، موضحا انه «في العراق لا نتمتع بهذا الحق بمفهومه الكامل، حيث هناك خطوط حمراء وتابوهات لا يمكن ان يتم تناولها او توجيه النقد لها والخوف من الاغتيال او الاختطاف او التغييب هو اول ما يتوارد الى الذهن».

وبالإضافة الى حرية التعبير، يقول ان هناك عوامل مؤثرة تتعلق بالمؤسسات مثل «الإطار القانوني الذي يعمل به الصحفي، وضمان الدولة لوصوله للمعلومة وحرية عمله وحقه بالتعبير، والعامل الاخر يتعلق بالسلطة المحتكرة من قبل جهات معينة، التي تمنع نشوء صحافة مستقلة او على الاقل بعيدة عن الصراع السياسي».

إجحاف بحق الصحافة العراقية

ويقول منسق مركز ميترو للدفاع عن الحريات الصحفية في اقليم كردستان، رحمن غريب: ان الصحافة الاستقصائية لها اهمية كبيرة جداً، نظراً لأنها تبحث عن الحقائق وخبايا قضايا الفساد، واصبحت خندقا جديدا للدفاع عن مصالح الناس المهمشة من قبل الفاسدين.

ويضيف غريب، ان الاولويات يجب ان تكون «بتدريب الصحفيين على هذا النوع من الصحافة قبل كل شيء، والمطلب الثاني الذي تحتاجه الصحافة الاستقصائية هو حق الحصول على المعلومة»، منوها الى ان « تغييب هذا الحق يعتبر أبرز تحد يواجهه الصحفي الاستقصائي، اضافة لغياب قانون الصحافة والتكتم على المعلومات، حتى أصبح عمل الدولة كأنه سري، والمتطلب الاخر هو الشفافية».

ويذكر غريب في حديثه مع «طريق الشعب»، ان «من المجحف بحق الصحافة العراقية القول اننا لا نمتلك صحفيين استقصائيين، لأنه بعد العام 2003 برزت مؤسسات صحفية مختصة بالصحافة الاستقصائية موجودة في العراق، وهناك صحفيون نالوا شهادات عالمية في هذا المجال».

ويخلص الى ان «هنالك قضايا في اقليم كردستان على سبيل المثال لا يتطرق لها الصحفيون، وتعتبر خطا احمر؛ فالخطوط الحمراء ما زالت موجودة في العراق واقليم كردستان، والتي يتم تجنبها في الصحافة الاستقصائية، وحتى الان هناك تهديدات وعناصر مسلحة لا يحكمها قانون، ومناطق نفوذ وقضايا لا يتم التطرق لها، لأنها ستعرض حياة الصحفي للخطر».

عرض مقالات: