اخر الاخبار

على الرغم من استمرار جيش الاحتلال الإسرائيلي في انتهاك وقف إطلاق النار في قطاع غزة، بحيث يسقط كل يوم المزيد من الشهداء وآخرهم 45 شهيداً في يوم أمس، فإن تنفيذ المرحلة الأولى من خطة دونالد ترامب "السلمية"، التي شهدت تبادل المحتجزين الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين وقيام حركة "حماس" بتسليم رفات 13 جثماناً إسرائيلياً، شجع مئات الآلاف من الغزيين والغزيات على العودة إلى مدينة غزة وإلى المناطق الواقعة في شمال القطاع، رغم صعوبات استئناف حياتهم في المناطق المدمرة.

توني بلير والخطوط العريضة للخطة

 

يبدو أن توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا السابق، هو من وضع الخطوط العريضة للخطة التي أعلنها دونالد ترامب بشأن مستقبل قطاع غزة في 29 أيلول/سبتمبر الماضي. فمنذ أسابيع، عرض توني بلير على رئاسة السلطة الفلسطينية، خلال زيارة قام بها إلى مدينة رام الله، تصوّراً لمستقبل القطاع المنكوب، يقوم على إنشاء "سلطة غزة الانتقالية الدولية" من دون مشاركة أجهزة السلطة الفلسطينية. ووفقاً لصحيفة "لوفيغارو" الباريسية، فإن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ليس غريباً عن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، إذ هو شغل، بين سنتَي 2007 و2015، منصب المبعوث الخاص للجنة الرباعية (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) لعملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. ثم أنشأ، سنة 2016، مؤسسة تحمل اسمه، "معهد توني بلير للتغيير العالمي"، وكشف تحقيق أجرته صحيفة "فاينانشيال تايمز"، في تموز/يوليو الماضي، أن هذا المعهد شارك في مشروع "الثقة الكبرى"، وهو خطة لإعادة إعمار القطاع الفلسطيني، بمساعدة مستشارين من "مجموعة بوسطن الاستشارية". وبعد شهر، حلَّ توني بلير ضيفاً على البيت الأبيض، وعُقد اجتماعٌ هناك خُصِّص لبلورة خطة الولايات المتحدة لما بعد الحرب، شارك فيه جاريد كوشنر، صهر الرئيس ورجل الأعمال الذي يقيم علاقات واسعة في الشرق الأوسط [1]. وقد بحث المشاركون في ذلك الاجتماع تشكيل السلطة الانتقالية الدولية في غزة، وبلوروا مشاريع إعادة إعمار رئيسية، تقودها "هيئة تشجيع الاستثمار والتنمية الاقتصادية في غزة" التي ستعمل بصفتها سلطة اقتصادية مستقلة تتبع مباشرة مجلس السلطة الانتقالية الدولية، أي أنها ستعمل من دون تدخل فلسطيني.

 كيف تم خداع قادة الدول العربية والإسلامية؟

 

في 23 أيلول/سبتمبر الماضي، استقبل دونالد ترامب في البيت الأبيض عدداً من قادة الدول العربية والإسلامية وعرض عليهم خطته للسلام في قطاع غزة. وعقب ذلك الاجتماع، صدر بيان مشترك عن ممثلي الدول العربية والإسلامية المشاركين في الاجتماع، أكدوا فيه "التزامهم بالعمل مع الرئيس ترامب، وعلى أهمية قيادته لإنهاء الحرب". ونقل موقع "أكسيوس" عن مسؤولين عرب قولهم إن المشاركين غادروا الاجتماع "متفائلين للغاية". وقالوا بعد اجتماعهم مع دونالد ترامب: "للمرة الأولى، شعرنا بوجود خطة جادة مطروحة". بينما صرّح مسؤول في البيت الأبيض لوكالة "فرانس برس" أن القادة العرب والمسلمين أكدوا خلال ذلك الاجتماع معارضتهم أي إجراءات من شأنها تقويض إصلاح السلطة الفلسطينية أو منعها من إدارة قطاع غزة والضفة الغربية، تمهيداً للتوصل إلى "حل الدولتين"، وطالبوا بضمانات ضد ضم أجزاء من الضفة الغربية أو أي إجراءات من شأنها تغيير الوضع القانوني والتاريخي الراهن للأماكن المقدسة في القدس. كما طالبوا بضمانات ضد تهجير سكان قطاع غزة، وأي عرقلة لعودتهم، وأي محاولة لاحتلاله.

بيد أن القادة العرب والمسلمين شعروا بالخيبة، كما يبدو، عندما اطلعوا على نص الخطة التي عرضها دونالد ترامب بحضور بنيامين نتنياهو، في 29 من ذلك الشهر، وخصوصاً بعد أن ظهر أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نجح في إدخال تعديلات جوهرية على النص الأولي للخطة تتعلق، بحسب صحيفة "لوموند" الباريسية، بمشاريع إصلاح السلطة الفلسطينية، وبأفق قيام دولة فلسطينية تضم إلى جانب قطاع غزة الضفة الغربية وبضرورة اعتماد جدول زمني ملزم للانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع. وبغية القفز عما حدث، اضطر قادة الدول العربية والإسلامية، الذين التقوا الرئيس دونالد ترامب، إلى إصدار بيان مشترك، في 1 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، يوضح موقفهم ويؤكد أن الخطة "تفتح الطريق إلى سلام عادل قائم على حل الدولتين، يكون قطاع غزة في إطاره مرتبطاً بصورة كاملة بالضفة الغربية، ضمن دولة فلسطينية، بما يتوافق مع القانون الدولي"[4]. وبعد يومين من صدور ذلك البيان، أعلن وزير الخارجية الباكستاني محمد إسحاق دار أن الخطة التي أعلنها الرئيس الأميركي لا تعكس الوثيقة التي اطلعت عليها باكستان وغيرها من الدول العربية والإسلامية، وقال أمام نواب في البرلمان: "إن الخطة أُدخلت عليها تعديلات"، وأضاف "أوضحت أن هذه النقاط العشرين التي أعلنها ترامب ليست نقاطنا، إنها ليست مماثلة لنقاطنا، أقول إن بعض التغييرات تمت في المسودة التي كانت لدينا".

 هل هي خطة "سلام" فعلاً؟

مع أن وقف إطلاق النار الذي تضمنته خطة دونالد ترامب قد حدّ من وحشية جيش الاحتلال، وأوقف إلى حد كبير عمليات التدمير الواسعة، إلا أن هذه الخطة ليس في وسعها، كما يرى معظم المحللين، أن تفضي إلى سلام دائم في المنطقة، ولا إلى إقامة دولة فلسطينية. بل هي تهدف، كما يقدّر الدبلوماسي المصري السابق معتز أحمدين خليل، إلى "إنقاذ سمعة إسرائيل التي شوهتها سنتان من المجازر في الأراضي المحتلة". أما على المدى المتوسط والطويل، فتهدف الخطة "إلى ترسيخ هيمنة تل أبيب على المنطقة"، و"القضاء على جميع أشكال المقاومة في الأراضي المحتلة، وتصفية القضية الفلسطينية، وتطبيع الوجود الإسرائيلي في المنطقة"، ليخلص إلى أن هذه الخطة "لا تعالج القضايا الجوهرية"، وهي "تأخذ برأي الجميع من دون مراعاة رأي الفلسطينيين، أصحاب المصلحة الرئيسيين، أو حتى دعوتهم للمشاركة".

هل هذه "بداية جديدة"؛ "وعد بعصر ذهبي في الشرق الأوسط"، كما جاء في عنوان صحيفة "وول ستريت جورنال"، نقلاً عن الرئيس الأميركي؟ أم أن الأمر يتعلق بـ "مسرحية سياسية"، و "مناورة تكتيكية تُتيح استراحة، وقفة إنسانية، لكنها لا تُغيّر شيئاً في منطق المحتل"؟ لا تُخفي صحيفة "واشنطن بوست" تشاؤمها، إذ تقدّر أنه "بينما تمكن دونالد ترامب من فرض وقف إطلاق النار بالقوة، مستغلاً لحظة تصاعد التوتر الإقليمي الشهر الماضي بعد قصف إسرائيل قطر، لا يوجد ما يضمن إمكانية تنفيذ المرحلة الثانية من خطته، التي لا تزال خطوطها العريضة غامضة للغاية". أما صحيفة "لوريان لو جور"، فقد أشادت بدور دونالد ترامب، ورأت "أن الاتفاقية التي أدت إلى الهدنة في غزة، والتي لا تزال هشة ومُهتزة، تظل خياراً أفضل من الحرب".

فالواقع، أن الغزيين والغزيات يريدون الآن وقف المقتلة، ووقف التدمير، والحد من مخاطر المجاعة من خلال إدخال المساعدات ومنع التهجير، لكن الخطة، التي ربما تضمن ذلك، صيغت بنودها بتوافق كامل مع بنيامين نتنياهو، وهي لا تتضمن جدولاً زمنياً ملزماً للانسحاب الإسرائيلي الكامل، وتبقي سيطرة إسرائيل الأمنية على قطاع غزة، وتكرس انفصاله عن الضفة الغربية، وتفرض وصاية أميركية عليه، وتغيّب الفلسطينيين وتستبعد أي دور للسلطة الفلسطينية إلا بعد أن تقوم بإصلاحات جوهرها التخلي عن السردية الفلسطينية وعن ملاحقة إسرائيل أمام المحاكم الدولية وتدويل القضية الفلسطينية. وتكمن خطورة هذه الخطة في أنها تلقى دعماً عربياً ودولياً واسعاً، وتساهم في فك عزلة إسرائيل الدولية، وتمهد الطريق أمام توسيع نطاق "اتفاقيات إبراهيم" وإعادة هندسة الشرق الأوسط بما يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية. أما إشارتها إلى "مسار موثوق" نحو دولة فلسطينية، فقد اختيرت هذه العبارة بعناية بحيث لا تتضمن وعداً قاطعاً ولا موعداً نهائياً، بل أفقاً مبهماً، علماً أن بنيامين نتنياهو أعلن، بعد يوم من نشر بنود الخطة، أنها لم تتضمن إشارة إلى الدولة الفلسطينية وأن ترامب يتفهم معارضته لقيامها، ومن المرجح أن الإشارة إلى الدولة الفلسطينية في البند التاسع عشر من بنود الخطة جاء لإرضاء المملكة العربية السعودية التي ربطت تطبيع علاقاتها مع إسرائيل بتبني هدف إقامة دولة فلسطينية. ووفقاً لباربرا ليف، وكيلة وزارة الخارجية الأميركية السابقة لشؤون الشرق الأوسط في عهد جو بايدن، يبدو أن الرئيس الأميركي قد تجنب " دمج الخطة بحل سياسي يفضي إلى دولة فلسطينية"، وذلك تجاوباً مع موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي "يعارض إقامة دولة فلسطينية، وقد أدان بشدة الدول، بما في ذلك فرنسا، التي اعترفت مؤخراً بدولة فلسطين".

وكان الرئيس الأميركي قد أجاب عن سؤال حول حل الدولتين على متن الطائرة الرئاسية التي عادت به من شرم الشيخ إلى واشنطن بقوله: "سأُقرر ما أراه مناسباً لمستقبل غزة والفلسطينيين بالتنسيق مع الدول الأخرى"، وأضاف: "أنا لا أتحدث عن دولة واحدة، أو دولتين، نحن نتحدث عن إعادة إعمار غزة"، مُؤجلاً هذا النقاش إلى وقت لاحق. ثم أصدر تحذيراً لـ "حماس" بالتخلي عن سلاحها، وأعلن: "إذا لم ينزعوا سلاحهم، فسننزع سلاحهم، وسيتم ذلك بسرعة، وربما بعنف". وأضاف على شبكة "سي إن ن" من أنه "قد يأذن لإسرائيل باستئناف عملياتها العسكرية في غزة إذا لم تحترم "حماس" شروط الاتفاق" وحثّها "على إعادة جميع جثامين الرهائن" الذين قضوا في قطاع غزة. ومن المعروف أن حكومة إسرائيل تتهم حركة "حماس" بالتستر على رفات بقية جثامين الإسرائيليين، وتقوم، في الوقت نفسه، برفض إدخال معدات الحفر تحت الأنقاض، التي تطالب بها الحركة، وتصر على إبقاء معبر رفح مغلقاُـ

ويستغرب موقع "عرب دايجست" الإلكتروني "حديث وسائل الإعلام الغربية عن "بداية جديدة" في الشرق الأوسط، والنظر إلى خطة دونالد ترامب باعتبارها "خطة سلام"، معتبراً أن ما جرى ما هو، في الواقع، سوى "تمثيلية سياسية" لتعطيل دينامية دولية بدأت تصب في مصلحة الفلسطينيين، في الوقت الذي وجدت إسرائيل نفسها معزولة بصورة متزايدة على الساحة الدولية. ويضيف الموقع أن هذه الخطة لا تشكك، بأي حال من الأحوال، في السيطرة الإسرائيلية، بل هي "تتيح مهلة، ووقفة إنسانية، لكنها تُبقي على توازنات القوة بين المحتل والشعب المُحتل كما هي"، بحيث يظهر هذا "الكرنفال الصاخب"، المُحيط باتفاق وقف إطلاق النار، وكأنه "تكرار لما حدث في عهد الرؤساء الأميركيين جيمي كارتر وجورج بوش وبيل كلينتون، الذين زعموا هم أيضاً أنهم مهندسو السلام".

 المرحلة الثانية من الخطة يكتنفها غموضٍ كبير

 

بعد مرحلتها الأولى، يكتنف غموض كبير المرحلة الثانية من خطة ترامب. ففيما يتعلق بقضية حكم قطاع غزة مستقبلاً، يرفض بنيامين نتنياهو رفضاً حازماً أن تستعيد السلطة الفلسطينية السيطرة على القطاع. وتثير فكرة تشكيل "مجلس سلام" مكلف بالإشراف على عملية الانتقال، برئاسة مشتركة لدونالد ترامب وتوني بلير، الكثير من التحفظات. أما إنشاء "قوة استقرار دولية" فهي قضية لا تزال في حاجة إلى تفصيلٍ، إذ لا يُعرف شيء عن هذه القوة التي ستحل محل الجيش الإسرائيلي بعد انسحابه من قطاع غزة، ولا عن الدول التي ستشارك فيها، كما أن مصير الضفة الغربية المحتلة ظل مجهولاً، وغابت قضية المستوطنات في الضفة الغربية عن الخطة، علماً أن الحكومة الإسرائيلية منحت، في الشهر الماضي، موافقتها على خطة مثيرة للجدل لتوسيع الاستيطان في منطقة قريبة من القدس من شأنها أن تقسم الضفة الغربية فعلياً إلى قسمين، مما يجعل إقامة دولة فلسطينية مستقبلية ذات تواصل جغرافي أمراً مستحيلًا. من جانبها، ترفض "حماس" أي نزع للسلاح، وتواصل إعادة انتشارها في بعض المناطق التي أخلاها الجيش الإسرائيلي، في إشارة واضحة إلى رفضها التخلي عن السلطة.

 خاتمة:

يرى حكيم القروي، مؤلف كتاب "إسرائيل فلسطين، فكرة سلام" (2025)، أن خطة دونالد ترامب أصبحت "عنصراً أساسياً في أجندات صانعي القرار الإقليميين"، وذلك بعد وقت قصير من المبادرة الفرنسية السعودية للاعتراف بدولة فلسطين، لكنه يقدّر أن هذه الخطة "لا أمل لها في إحلال السلام، لا في غزة، ولا في فلسطين، ولا في إسرائيل؛ إنها مجرد وقف إطلاق نار - وقف آخر - في "حرب المائة عام" الإسرائيلية الفلسطينية التي تُمزق شعوب المنطقة وأرواحها". ويتابع أن هذه الخطة "لا تذكر شيئاً عن الاستعمار الإسرائيلي للضفة الغربية"، و "لا تُحدد أي جدول زمني للانسحاب الإسرائيلي"، و "لا يُذكَر فيها القانون الدولي قط"، و"يبدو الأمر كما لو أنه بعد ثمانين عاماً من انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، بدأت تظهر محمية جديدة"، ليخلص إلى أن نتنياهو وترامب يعتقدان أن "القول بالسلام بشروطهما هو تحقيقٌ له"، وهو نهج "لن يؤدي إلى السلام، بل إلى استمرار الحرب"، بينما يتوجب على الأميركيين والإسرائيليين "أن يروا الواقع كما هو، لا كما يرغبون فيه فحسب، إذ لا يمكن أن يأتي الحل من تقسيم حسابي، بل من تغيير في المنظور، ولن تنعم إسرائيل بالسلام أبدًا حتى تعترف بوجود الفلسطينيين".

 لا يجب أن يظل الفلسطينيون مغيبين

 

بغية مواجهة المخاطر التي تنطوي عليها خطة ترامب، لا بدّ من تفعيل الدور والحضور الفلسطينيين، وهو أمر يحتم اعتماد موقف فلسطيني موحد إزاء هذه الخطة، ذلك أن ما هو مطروح على بساط البحث ليس مستقبل قطاع غزة وحده بل مستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية. وإذا كانت الحوارات الفلسطينية الهادفة إلى تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، التي انطلقت منذ سنة 2007، قد عجزت عن تحقيق الهدف المأمول منها، جراء خلاف الفصيلين الرئيسيين على السلطة، وعلى أشكال المقاومة وعلى الالتزام بقرارات الشرعية الدولية، فإن التطورات الأخيرة جعلت هذا الخلاف لا معنى له، بما يمهّد طريق الاتفاق على أرضية سياسية مشتركة وانخراط الجميع في منظمة التحرير الفلسطينية.