بغدادُ ! مــا اشتبكتْ عليكِ الأعصرُ ... إلّا ذوتْ ووريقُ عمــرِكِ أخضـرُ
1
قَلّ أن يلتقي الفقهُ بالشعر من دون أن يجورَ عليه ، أو يطفئَ توقّدَه؛ لكنّهما عندما التقيا عند السّيّد مصطفى جمال الدين ( 1927 – 1996 ) تكاملا وتآزرا! ذلك أنّه أحسن التأليفَ بينهما، وأقام كلًّا منهما على ما ينبغي له .
نشأ مصطفى بنُ جعفر جمال الدين في قريةٍ من قُرى سوق الشيوخ ، في بيت جدّه السّيّد عناية الله جمال الدين. وقد كان بيتُ جدّه مثابةً لأهل القرية؛ يقصدونه في شؤون دينهم ودنياهم، ويجدون عنده سعةً في ما ينوبهم . وإذ بلغ سنّ الدراسة أُلحِقَ بمدرسةٍ ابتدائيّة؛ يتعلّمُ القراءةَ والكتابة؛ حتّى إذا أتمّ السنةَ الرابعةَ منها؛ صار رأيُ الأُسرة أن يُصرفَ عنها، ويُبعثَ إلى النجف ؛ ليسلكَ مسلكَ الدراسةِ الدينيّة على نهجه آبائه.
وفي النجف ومدرستها الشاخصة عرَف طريقَ الأدب، وطريقَ الفقه، وحرَص على أن يسير فيهما معًا ، وأن يجعلَ منهما إلفينِ لا يُنكر أحدُهما الآخر. وقد كانت النجفُ في تلك السنوات من النصف الأوّل من القرن العشرين في ذروةٍ من ذرى مجدِها في الفقه والشعر، وما يتّصل بهما، وكان الناشئُ من أبنائها، ومن الدارسين فيها، لا يفتأ يملأ سمعَه وبصرَه بحلقات الفقه، ومجالس الشعر، وبمناحي إدارةِ الكلام على شتى وجوهه، من تصريح وتعريض، وإلماحٍ وإخفاء؛ فيصفو ذوقُه، ويتهذّب طبعُه، ويستحكم ذهنُه، ويستقيم لسانُه على العربيّة الجزلةِ الفصيحة؛ ويترشّح لما هو ميسّرٌ له من فقه أو أدب، أو أن يُقدّرَ له الجمعُ بينهما .
وقد أُتيح للفتى الناشئ أن تتصلَ أسبابُه بأسباب هذه البيئة، وأن يكونَ في الصميم منها؛ فيأخذَ عن شيوخ الفقه، وعن شيوخ الأدب، وأن يتفقّه بفقههم، ويتأدّبَ بأدبهم. وإذ يستعيدُ ، من بعدُ، سنواتِ النشأة، تلك ، فإنّه يذكر بمحبّةٍ وثناء الشيخَ عليّ زين الدين، وأخاه الشيخَ محمّد أمين زين الدين، والشيخَ سلمان الخاقانيّ، ويذكر آخرين من وجوه المدينة في الفقه والشعر.
غير أنّه على إكباره نهجَ المدينة في الفقه والشعر؛ نازعته نفسُه نحوَ الجديدِ المفارق، بنحوٍ ما، لما عليه الشيوخ في تقاليدهم؛ وقد وَجَد من أقرانه، في السنّ والدراسة، من ينزعُ منزعَه ، ويقصد مقصده؛ فائتلفوا في جماعة أدبيّة اتّخذت لها عنوان: "الأدب اليقظ"، وهم مصطفى جمال الدين، ومحمّد بحر العلوم، وصالح الظالميّ، ومحمّد حسين فضل الله، وضياء الخاقانيّ، وحسين بحر العلوم، وجميل حيدر، ومحمّد الهجريّ، وجعلوا يلتقون، وينظمون الشعر في أغراض متّصلة بهم، ويسعون إلى زحزحة السائد المألوف بما لديهم من جديد .
أمّا في الفقه فقد انحاز إلى الفقيه المجدّد محمّد رضا المظفّر، وأخذ عنه، ورأى في نهجه خُطّةَ الإصلاح المرتجاة. وحين أنشِئت كليّةُ الفقه، في سنة 1958، التحق بها، وتخرّج في سنة 1962، ولنباهته، واستقامة تحصيله عُيّن معيدًا فيها؛ فبدأ منحى آخرُ في حياته، لا يقلّ عن الفقه والشعر، هو المنحى الجامعيّ، كان له أن يتّسع مداه ، وأن يتمّ، من بعدُ، في رسالتين؛ الأولى: "القياس حقيقته وحُجيّته"، نال بها الماجستير من كلّيّة الآداب بجامعة بغداد، والثانية:
"البحث النحوي عند الأصوليين"، نال بها الدكتوراه من الكلّيّة نفسها . وكلتا الرسالتين مكينةٌ في بابها، أصيلةٌ في منحاها. وحين أُوكل إليه تدريسُ مادّةِ "العَروض" في كلّيّة الفقه وضع فيها كتابًا بعنوان: "الإيقاع في الشعر العربيّ من البيت إلى التفعيلة"؛ ما يزال موردَ الدارسين؛ يجدون فيه أصالةَ الرأي، وسلاسة المعالجة ، مع أمثلة من رفيع الشعر .
وآلت إليه، مع عمله في كلّيّة الفقه، رئاسةُ جمعيّة الرابطةِ الأدبيّة؛ فأحسنَ القيام عليها، وجدّد عهدها، وأصدر " مجلة الرابطة" ، مع هيئة تحرير ، هم وجوه الأدب في النجف يومئذٍ؛ حتّى إذا أخذت البلادُ تضيق بأهلها، وشرعت النُذُرُ تترى؛ غادر في سنة 1980، متنقّلًا من بلد إلى آخر ، ثمّ استقرّ في دمشق.
2
كانت محافلُ الشعر في النجف مدرسةً يتخرّج فيها الناشئون؛ إذ يتعلّمون، ممّن سبقهم، مقاماتِ الشعر، ومداخلَه، وألوان التصرّف فيه، ويقفون على الألفاظِ ومواقعِها من النظم، ويمرُنون على الإلقاء؛ متشرّبينَ، في ذلك كلّه، تقاليدَ الفنّ وأصوله؛ فإذا خرجوا، من بعدُ ، إلى ميدان الصحافة، والمنابرِ العالية خرجوا مكتملي الأداة؛ معنى ومبنى. وقد تخرّج بهذه المحافل السيّدُ مصطفى جمال الدين، وتكاملت عناصرُ الفنّ عنده؛ فاستقام له الشعرُ في أغراضه الرفيعة. إنّ الشعرَ عنده يتّخذُ منحيين واسعين؛ منحى الشأن العامّ، ومنحى الشأن الخاصّ؛ على أنّهما مؤتلفان منسجمان لا يطغى أحدهما بالآخر؛ وهو، من بعدُ، يعرف لكلٍّ موضعَه، ويُدرك حسنَ مداخله. ولقد كان من منحى الشأن العامّ قصيدته: "بغداد، تحيّة للمدينة الخالدة في عيدها الألفي". التي نظمها في سنة 1962 من أجل الاحتفال الذي أُقيم للمدينة، وللفيلسوف الكنديّ في تلك السنة؛ وإذ ألقاها فيه نالت من الاستحسان والحفاوة ما إنّ أصداءه ما تزال تتردّد عند الدارسين:
بغدادُ ! مــا اشتبكتْ عليكِ الأعصرُ ...
إلّا ذوتْ ووريقُ عمــرِكِ أخضـرُ
مـرّتْ بكِ الدنيـــا وصبـحُكِ مشمِــسٌ ... ودجتْ عليـكِ ووجــهُ ليلِكِ مُقمِرُ
وقســـتْ عليــكِ الحــادثـاتُ فــراعَها...
أنّ احتمــالَكِ مـــن أذاهـــــا أكــــبرُ
حتّـى إذا جُـــنّتْ سيــاطُ عـــذابِـــها... راحـتْ مواقِعُــها الكــريمَةُ تَســخَـرُ
وقد استوفى الشاعر، في القصيدة، تاريخَ بغداد بتقلّبِ الزمان عليها بين إقبالٍ وإدبار، وشدّةٍ ورخاء؛ لكنّها، في كلّ حالاتها ظلّتْ خضِلةَ الجَنان، صليبةً على الحدثان ، لا تني تتجدّد . وقد شهِد السامعون للقصيدة ، حين أُلقيتْ ، بجزالةِ اللغة ، ومتانةِ السبك ، وإحكام البناء، وابتكار الصور ، وصار مطلُعها يستعاد كلّما ذُكرت بغداد ، وذُكر تاريخُها . ومدارُ الشأن العامّ عنده على العراق ، والعربِ ، وتاريخِ الإسلام ، ورجالهِ الخالدين ، وعلى القيم الرفيعة. وهو إذ يتناول أمرًا عامًّا يُدنيه من نفسه ، وينفث فيه من روحه ، ويضع عليه مِيسمَه ؛ فيكتسب ، بذلك ، رونقًا وطَراوة .
وقد يجعل من أمرٍ خاصّ مدخلًا إلى قضيّة عامّة كالذي كان في قصيدته : " أُنشودة لوليد الصحراء يقظان " ؛ إذ صوّر بها انتفاضةَ شعبان سنة 1991 ، منطلقًا من الوليد، يقظان، ابنِ بنته :
نبّئـــوني يــا مــــــــن بــرفحــاءَ بــانـــوا ... كيـف يغفو بليلـِها اليقظانُ
كيفَ هزّتْ عواصفُ الرملِ مَهدًا... ضَجِرتْ من بكائهِ الأوطــانُ
ضـاقَ فيــه حضنُ الفراتينِ ذرعًـا... فتـــلَقّتْـــه هـــــذه الـــــكُــثـبـــــانُ
فَرَشـــتْ جَمــرَهــا لـــه مُهــجُ البيــ ... دِ وجـادتْ بشوكِها الســعدانُ
وتــــولــّتْــــه بـالـرضـاعـــةِ أثــــــدا..ءُ السوافــي وهَدْهَدَتْه الرِّعانُ
ثمّ ينفُذُ منه إلى تصوير أمرِ العراقِ وأهله، وما حاق به من أذى في تلك الحوادث المتتابعة. وهو فيها على نهجه من الرّصانة والتؤدة، ومتانةِ اللغة ، وإحكام السّبك . وقد لقيتْ، حين أُنشدتْ ، وحين نُشرتْ، إقبالًا واسعًا، ورأى فيها جمهورٌ عريض تعبيرًا عمّا وقع عليه، وأوذي به. ولقد كان الشاعرُ ، بها وبغيرها من قصائده ، صوتَ الناس المظلومين!
أمّا الشأنُ الخاصّ فإنّه مكينٌ عنده لا يفتأ يلوذ به مُعربًا عن أشواق نفسه ولواعجها؛ ولقد وسَم ديوانَه الأوّل ، الذي صدر ببغداد سنة 1972 ، بما ينبئ عن مكنون النفس ، وعن نوازعها ؛ فدعاه:
"عيناكِ واللحنُ القديم" جاعلًا من
"اللحن القديم" كنايةً عن نفسه ؛ يقول :
قرّبــــي روحَــك الرقيقـــةَ منّـي... ودعيني أنسى مصارعَ فنّي
أنا يا حُلوتي شَجيّ مـــن الأنــــ ... ـــغامِ هيمــانُ لم يُمتّـــعْ بأُذْنِ
عــزفتْهُ قيثـــارةٌ لـــم تمـــازجْــــ ... ـــه هديـــرًا فعـــادَ أســـوأَ لَـحْنِ
وتناهَى إليكِ مـــن بعد عشريــ ... ـــن خليًّا مـمّــا يروقُ المُـغَنـّي
وحين كان في لندن ، سنة 1980 ، كتب: " الصحو الغائم " ، واقفًا عند اشتباك العلائق ، بالاقتراب والمباعدة :
أنتِ قطــــرُ النــدى وقلبــي وردُ ... فلمـــاذا الجفــــافُ بــي يستبــدُّ
مــــا لعينيـــكِ تومئـــان فتـخْـضر ... رُ دروبـي وتستفيـــق وتشــــدو
وإذا مـــا هَمَمــتُ سدَّ طريقَ الـ ... ـنورِ خـوفٌ وراء هدبيـك يبـدو
نبّئيني عن صحوِ عينيك ماذا ... يختبــي خـلفَه ؟ أبــرقٌ ورعـــدُ
أم غرامٌ بمُتقِني الجدفِ لم يتـ ... ــركْ مـجــالًا لســـابـحٍ يسـتـجـــدُّ
وهو مفصحٌ مبينٌ في كلا الشأنين؛ لا يضطرب بين يديه لفظ، ولا يختل نظام صورة، ولا يبعد عن القصد. وإذا كان من الشعراء من يغلو ويندفع؛ فإنّ مزيّةَ السّيّد مصطفى جمال الدين القصدُ والاعتدال ، وثبات الموقف؛ ولعلّ ذلك، عنده ، ممّا أفاده الشعرُ من الفقه ...