من يتأمل المشهد الانتخابي اليوم يلاحظ انفجاراً غير مسبوق في حجم الإغراءات والحوافز المادية التي تقدّمها أحزاب السلطة ومرشحوها. فالحملات الانتخابية لم تعد تدار بالبرامج والرؤى، بل بالأموال التي تُنفق بسخاء مفرط، وكأنّ التنافس على مقاعد مجلس النواب صار سباقاً على شراء النفوذ لا على خدمة الناس. الإعلانات تملأ الشوارع، والمآدب تتوالى، والوعود تتكاثر، بينما تغيب البرامج الحقيقية، وتختفي القيم التي يُفترض أن تقوم عليها العملية الديمقراطية.
ما يميز هذه الحملات الانتخابية للقوى المتنفذة، هو الإنفاق الفاحش الذي تجاوز كل حدّ، حتى غدا معيار النجاح لا يقاس بصدق الالتزام أو عمق الطرح، بل بقدرة المرشح على البذخ في الإنفاق وتقديم المزيد من المغريات. وتحوّل السؤال في أذهان كثيرين من: من يخدم أكثر؟ إلى: من يمنح أكثر؟ بمعنى من يشتري الولاء بالمال لا بالثقة.
إنها عملية ممنهجة لشراء الضمائر وتشويه الوعي، هدفها الأساس إفساد الإرادة الشعبية وتحويل الديمقراطية إلى سلعة تباع وتشترى.
تتجلى مظاهر هذا البذخ في توزيع الأموال والهبات وإقامة الولائم وتقديم الوعود الزائفة، بل وصل الأمر إلى شراء البطاقات الانتخابية صراحةً والالتفاف على القوانين عبر وسطاء ووكلاء. إنها إهانة واضحة لإرادة الناخب واعتداء على أبسط قيم المواطنة، حين يصبح الصوت الانتخابي موضوع مساومة مادية لا اختياراً حراً نابعاً من قناعة.
وهذا المشهد يعكس في جوهره إفلاساً سياسياً وأخلاقياً. فحين تعجز الأحزاب عن إقناع الناس ببرامجها، تلجأ إلى إغرائهم بالمال. وحين يغيب المشروع الجاد لخدمة المواطنين، تُستحضر لغة الهبات والعطايا لتجميل الواجهة الفارغة. إنها محاولة مكشوفة لإعادة إنتاج الطغمة ذاتها، وترسيخ منظومة العجز التي تعيق أي تغيير حقيقي أو إصلاح جاد.
أما مفوضية الانتخابات، فغياب إجراءاتها الرادعة تجاه هذا الفساد المالي يثير تساؤلات مشروعة. فشراء الأصوات لا يختلف عن التزوير في يوم الاقتراع، بل هو تزوير مسبق بوسائل ناعمة. وإن تجاهل هذه الممارسات، وترك السقف المالي للإنفاق الانتخابي بلا رقابة، يجعل المنافسة بين القوى النزيهة محدودة الإمكانات، وبين أصحاب المال والنفوذ منافسة غير عادلة منذ بدايتها.
إن البذخ الانتخابي ليس عرضاً طارئاً، بل هو علامة على اختلال بنيوي في النظام السياسي، حيث تتكرّس معادلة المال مقابل الولاء، لا الكفاءة مقابل الثقة. وما لم يُكبح الانفلات المالي عبر قوانين صارمة وإرادة سياسية حقيقية، ستظل الديمقراطية العراقية رهينة لسطوة المال السياسي، وسيبقى التغيير مؤجلاً بانتظار صحوة ضميرٍ ووعيٍ لا يُشترى بثمن.
وهكذا تبدو المنافسة غير عادلة، بين قوى نزيهة لم تتلوث بمال الفساد ولم تمد يدها إلى المال العام، وبين قوى تُنفق بلا حساب من خزائنٍ امتلأت بالاستحواذ والمحسوبية. فهذه الأموال التي تُغرق الساحة ليست من رواتبهم الشهرية قطعاً، بل من أرصدة الفساد التي ما زالت تُشوّه وجه الديمقراطية، وتؤخر ولادة وطنٍ يستحق ما هو أصدق وأطهر.