اخر الاخبار

في السابع من هذا الشهر، وقبل ما يقارب نصف قرن من الزمان، وفي وادٍ كردستانيٍّ سحيق، احتفلتُ مع رفاقي الأنصار بذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى. قلتُ لصاحبي يومها "أنا لا أميل إلى هذه التسمية، فالأصح أن نسميها ثورة العاشقين". أجابني مبتسمًا "إلامَ تبقى مسكونًا بالشعر؟" لكن الشعر هو الذي قادني للبحث عن عالم الصدق والنقاء والحرية، فاهتديتُ للإنتماء لكم. ثم إنها حقًّا، وبعيدًا عن الرومانسية، ثورةُ حفاةٍ وجياعٍ تجلّى عشقهم بما حملوه للبشرية من عدلٍ وخبزٍ وأمان، من قناديل بشارةٍ لا تخبو رغم الأعاصير، ومن سواعدَ استعانت برقّة القلب لتستنطق حجر الحكمة والنبوءات، وتنقّب في الروح الإنسانية عن عذوبة العصافير، كي تحميها من أنانية التملك ووحشية الاستغلال. ثورةُ بُسطاءَ كمخيض الفجر، وضعوا الحقَّ في الحياة هدفهم الأوّل، فدافعوا باستِماتةٍ عن السلام العالمي، وتفرّدوا في تشخيص العلاقة الجدلية بين الأممية والديمقراطية وحقّ تقرير المصير، جاعلين من هذا الحق مدخلًا وحيدًا للتعاون والوحدة الطوعية والاندماج بين الأمم، ومنفّذين فكرتهم هذه بأبهى صورةٍ عرفها التاريخ.

نعم، يا صاحبي، هؤلاء العشّاق، الحفاةُ الجياع، هم من حققوا خلال نصف قرنٍ أضخمَ نهضةٍ حضارية، تخطّوا بها التخلّف الاقتصادي والثقافي، ووفّروا منجزاتٍ غير مسبوقة في مستوى الخدمات كالتعليم والصحة والنقل والسكن والطرقات والتغذية ورعاية الأطفال والحاجات الثقافية، مع فرص عملٍ وفيرة وتوظيفٍ أوسع للنساء اللواتي ضمِمنَ مساواةً حقيقيةً مع الرجل، وأرسلوا أوّل إنسانٍ إلى الفضاء، وعضّدوا كفاح الشعوب التابعة والمستعبدة، وساهموا في تفكيك النظام الكولونيالي وتحقيق الاستقلال السياسي، مُعيقين الهيمنة الكاملة للإمبريالية على العالم، ومرغمين الوحوش الرأسمالية على التنازل عن العديد من الحقوق لصالح الشغيلة.

وإذا كانت الأشياء تُعرَف بأضدادها، فلولا القبحُ ما عُرف الحُسن، ولولا السقمُ ما عُرفت العافية – كما قال الجاحظ – فإن حجم العداء والكراهية والتشنيع الذي تعرّضت له ثورة أكتوبر على أيدي النازيين والفاشيين والكذّابين ومزوّري التاريخ ومرتكبي جرائم الإبادة الجماعية وسارقي لقمة الخبز من أفواه الأطفال ومخرّبي البيئة وأعداء التقدّم والإبداع، والحاقدين على كل من يختلف معهم في الفكر والثقافة واللون والجنس، لأقوى دليلٌ على أنها كانت ثورةً للحبّ والصفاء والعدل بين البشر. ثورةٌ ما تزال بدروسها ترشد الإنسانيةَ إلى غد الخلاص، وتُديم المشروع الثوري، وتُحفّز على تعزيز الكفاح متعدّد الأشكال، وعلى تطوير الفكرة وعصرنتها بما يتوافق مع ضرورة تعشيق النضال الطبقي مع القضايا الوطنية والديمقراطية، وتعزيز التضامن الأممي، في زمن العولمة المتوحشة وهيمنة طغمةٍ صغيرةٍ على اقتصاد العالم وثرواته ومستقبله؛ زمن الفاشية الجديدة والجوع والتمايز الطبقي الشنيع، خاصةً في هذه الأيام التي باتت فيها الشعوب تدرك أكثر من أي وقتٍ مضى أن الاشتراكية لم تعد مجرد خيارٍ اقتصادي، بل استراتيجيةً لمواجهة الرأسمالية في أشرس صورها، وللدفاع عن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والسلام.

وإذا كان تسربُ وتراكمُ العديد من الأخطاء والخطايا قد أدّى إلى انهيار التجربة التي وُلدت عن ثورة العاشقين، لأسبابٍ موضوعية وذاتية، كعبادة الفرد والبيروقراطية وتغليب المركزية على الديمقراطية، والتنكر للفعل الموضوعي للقوانين الاقتصادية والاجتماعية، وغياب أية مراجعات فكرية لتطوير آليات الديمقراطية الاشتراكية – وخاصةً جوهرها المتمثل بالحرية – فإن أي قراءةٍ منصفةٍ للتاريخ تؤكد أنه لا علاقةَ وثيقة بين تلك الأسباب وبين الثورة وميقاتها ومجرياتها.

ولهذا، بقيت دروسُ الثورة مصدرَ قلقٍ مميتٍ لكلّ مستغِلّي الناس، وتجربةً يقتدي بها كلّ المكافحين للخلاص من العبودية، وعهدًا صادقًا بأن فجر الحرية والعدالة آتٍ لا ريب فيه.