اخر الاخبار

يشهد العراق واحدة من أخطر الأزمات البيئية في تاريخه الحديث، إذ تتسع رقعة الأراضي الجرداء وتختفي ملامح الحياة الزراعية في ظلّ تصحرٍ متسارع وشحٍ مائي غير مسبوق. ومع ارتفاع درجات الحرارة وتراجع مناسيب الأنهار، تذبل الحقول ويهاجر الفلاحون من أراضيهم التي كانت يوماً مصدر رزقهم.

وبينما تشير التقديرات الرسمية إلى أن أكثر من 60 في المائة من أراضي البلاد خرجت من الخدمة الزراعية، يحذر مختصون من أن استمرار الإهمال وغياب المعالجات الجادة قد يدفع النسبة إلى 70 في المائة خلال العام المقبل، لتتحول مساحات واسعة من العراق إلى صحراء قاحلة تهدد أمنه الغذائي والبيئي.

60 في المائة من مساحة البلاد "متصحرة"

يقول عمر عبد اللطيف من مرصد العراق الأخضر إن "الخطر البيئي تجاوز حدود التحذير وأصبح واقعاً يهدد مستقبل البلاد الزراعي والاقتصادي". ويضيف أن "غياب المعالجات الميدانية وافتقار الخطط الحكومية إلى التنفيذ العملي جعلا الأزمة تتسع يوماً بعد آخر، بينما تتراجع قدرة الأرض على الإنتاج والحياة".

ويؤكد عبد اللطيف في تعليق لـ"طريق الشعب"، أن "الأراضي المتأثرة بالعوامل الصحراوية والصخرية لم تعد صالحة للزراعة، فيما تتوسع البقع الجافة في مختلف المحافظات"، مشيراً إلى أن "آخر إحصائية لوزارة التخطيط أظهرت أن التصحر بلغ 60 في المائة من مساحة البلاد".

وفي مواجهة هذا الواقع المقلق، ترى وزارة الزراعة أن البلاد بحاجة إلى زراعة أكثر من 15 مليار شجرة لإعادة بناء الغطاء النباتي المفقود. وتقول الوزارة إن تحقيق هذا الهدف يمكن أن يُعيد شيئاً من التوازن البيئي والهواء النقي الذي تدهور بفعل التلوث والانبعاثات الصناعية والعوادم.

نقص حاد في الغطاء الخضري!

وتحدث د. جاسم المالكي، عضو المكتب الاستشاري لنقابة المهندسين الزراعيين/ المقر العام، عن الواقع الخضري في محافظة البصرة، قائلا إنها تعاني من نقص حاد في الغطاء النباتي وقلة المساحات الخضراء، نتيجة تفاقم العديد من العوامل التي تراكمت عبر سنوات طويلة.

وأضاف المالكي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن "البصرة كانت تُعرف في الماضي بأنها مدينة النخيل، إذ كانت تمتلك واحدة من أكبر غابات النخيل في العالم تمتد على ضفاف الأنهار المتفرعة من شط العرب ونهري دجلة والفرات". وأوضح أن الدراسات تشير إلى أن البصرة كانت تحتضن أكثر من 13 مليون نخلة في سبعينات القرن الماضي، في حين لا يتجاوز عددها اليوم مليونين ونصف المليون نخلة فقط، وهو انخفاض كبير يعكس حجم التدهور البيئي والزراعي في المحافظة.

وتابع قائلاً إن العوامل السياسية والحروب العبثية التي شهدها العراق خلال العقود الماضية كانت من أبرز الأسباب وراء هذا التراجع، إذ خلّفت دمارا في شتى المجالات، ولا سيما القطاع الزراعي.

وأشار إلى أن توسع الشركات النفطية واستحواذها على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في المحافظة أسهم في تآكل البيئة الخضراء، فيما جاءت عمليات تجفيف الأهوار لتفاقم المشكلة وتترك أثرا مباشرا على بيئة الجنوب بشكل خاص، والمنطقة عمومًا.

توسع سكاني عشوائي

وبين المالكي أن التوسع السكاني العشوائي أسهم كذلك في تجريف البساتين وتحويلها إلى مناطق سكنية، ما أدى إلى تراجع أعداد الأشجار بشكل كبير، إلى جانب تدهور نوعية المياه الواصلة إلى الأراضي الزراعية، التي أصبحت أكثر ملوحة ورداءة، فتسببت في تدمير التربة وزيادة رقعة التصحر في مناطق متعددة من البصرة.

ووصف المالكي الوضع البيئي في المحافظة بأنه يشهد تغييرا جذريا خطرا، حيث ارتفعت مستويات التلوث إلى معدلات مقلقة تهدد صحة الإنسان والتنوع الحيوي في المنطقة، مبينا أن هناك توجها شعبيا ومؤسسيا نحو زيادة المساحات الخضراء لأغراض بيئية وصحية: "إلا أن الجهود الحالية لا تزال محدودة جداً ولا تتناسب مع حجم الضرر القائم"، على حد تعبيره.

وأشار إلى أن الأشجار التي نجحت تقليديا في أجواء البصرة القاسية تشمل النخيل، السدر، اليوكالبتوس، الأثل، الصفصاف، لسان العصفور، كف مريم، والجلفلورا، موضحا أن هذه الأنواع كانت تشكل سابقا مكونات أساسية من المشهد الزراعي.

وأضاف أن حملات التشجير الحديثة أدخلت أنواعًا جديدة من الأشجار مثل الأكاسيا، البونسيانا، الجاكاراندا، ورد الساحل، فرشة البطل، واللوز الهندي، وهي أنواع أظهرت قدرة نسبية على التأقلم مع مناخ البصرة، رغم الصعوبات التي تواجهها خلال أشهر الصيف.

وخلص إلى أن هناك جهودًا ومبادرات تطوعية من قبل ناشطين بيئيين، تسعى لإعادة زراعة بعض الأشجار القديمة التي اندثرت على مرّ السنوات، واصفا هذه المبادرات بأنها "عمل عظيم يسهم في إحياء تراث بصري أخضر كاد أن يُمحى بالكامل".

الزراعة في ميسان "خسارة"

وفي محافظة ميسان يشكو مزارعوها من تدهور الواقع الزراعي، نتيجة لشح المياه وارتفاع أسعار الأسمدة، ما أدى إلى تراجع الإنتاج الزراعي وتحوّل مساحات واسعة من الأراضي إلى أراضٍ جرداء غير صالحة للزراعة.

وقال الفلاح عباس الأهواري في حديث لـ"طريق الشعب"، إن "ارتفاع أسعار الخضروات في الأسواق يعود إلى قلة الزراعة، والسبب في ذلك هو شح المياه وارتفاع أسعار الأسمدة".

وأضاف ان "أرضنا تحتاج إلى السماد مثل اليوريا وإذا لم تُشبَع الأرض بهذه المواد فلن تنتج، ما يجعل الزراعة خسارة على الفلاح"، موضحا أن أسعار الأسمدة ارتفعت بشكل غير مسبوق خلال السنوات الأخيرة، قائلاً: "كنا نشتري السماد سابقاً ٦٠ ألف دينار، أما اليوم فصار بأكثر من ٢٠٠ ألف، أي أربعة أضعاف، وهذا يجعل الفلاح عاجزاً عن الزراعة".

وأشار إلى أن "شح المياه يزيد من معاناة الفلاحين، فالكثير يزرع ثم ينقطع الماء قبل نضوج المحصول، ما يؤدي إلى خسائر كبيرة"، مؤكداً أن "غياب الدعم الحكومي فاقم الأزمة".

وبين الأهوازي أن "الحكومة كانت في السابق توفر السماد ضمن خطط زراعية وبأسعار رمزية، إذ كان الفلاح يتسلم كميته حسب مساحة الأرض، أما اليوم فالكميات محدودة والأسعار مرتفعة"، مضيفاً أن "الفلاحين يعتمدون على أنفسهم دون قروض أو دعم، فيما يبيع التجار الأسمدة بأسعار تفوق قدرة المزارع على الشراء".

ولفت إلى أن "كثيراً من المزارعين تركوا أراضيهم بسبب الخسائر المتكررة"، موضحاً أن "الدورات الزراعية انخفضت بشكل كبير، وأصبحت الزراعة اليوم عملا غير مجد اقتصادياً".

وتابع أن "شح المياه الناتج عن انخفاض مناسيب الأنهار والتغيرات المناخية، إضافةً إلى ارتفاع تكاليف الزراعة، تسبب في تراجع المساحات المزروعة في جنوب العراق، إلى أقل من النصف خلال السنوات الأخير".

وطالب الأهواري الجهات المعنية بوضع خطط طارئة لدعم الفلاحين، وتوفير الأسمدة بأسعار مناسبة، وإعادة تأهيل شبكات الري، فضلاً عن مشاريع لمعالجة شح المياه، للحفاظ على ما تبقى من الأراضي الزراعية ومنع تفاقم التصحر.

أزمة المياه "قضية وجود"

من جهته، قال الخبير الزراعي تحسين الموسوي أن "أزمة المياه في العراق ليست مجرد مشكلة زراعية، بل قضية وجودية تتعلق بالحياة نفسها"، مؤكداً أن البلاد تواجه موتاً تدريجياً في بعض المناطق نتيجة فقدان مساحات واسعة من الأراضي الزراعية وارتفاع معدلات التصحر والتلوث البيئي.

وأضاف الموسوي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن أكثر المحافظات تضرراً من الأزمة تمتد من أسفل بغداد وصولاً إلى الجنوب، وتشمل محافظات البصرة وميسان وذي قار والسماوة والديوانية، مؤكدا أن تأثير الجفاف بدأ يمتد تدريجيا حتى المناطق القريبة من بغداد".

وفي حديثه عن السياسات المائية الداخلية، وصف الموسوي النهج العراقي بأنه "قديم وخاطئ"، موضحاً أن العراق يستهلك كميات كبيرة من المياه دون وجود ثقافة رشيدة في استخدامها.

وتابع أن البلاد تفتقر إلى منظومات حديثة للري مثل الري بالتنقيط والرش، كما لا يتم استثمار مياه الصرف الصحي أو مياه البزل بعد معالجتها لأغراض الزراعة، على غرار ما تقوم به الدول التي تعاني شحًّا مائيًا.

كما انتقد غياب مشاريع تحلية المياه وضعف تطبيق القوانين التي تنظم الاستخدام ومنع التجاوزات، مشيرا إلى أن هذه العوامل جميعها ساهمت في تفاقم الأزمة.

وأكد الموسوي أن العراق اليوم دخل ضمن تصنيف "الإجهاد المائي" العالمي لعام 2023، وهو ما يعني أن البلاد تستهلك أكثر مما يصلها من إيرادات مائية، ما يشكل "مؤشرا خطرا عاليا جداً".

وختم الموسوي بالقول إن حل الأزمة يتطلب إرادة وطنية حقيقية وتعاونا بين جميع الجهات، من المواطن الى المزارع والفلاح وصولا الى أعلى مستويات السلطة، إضافة إلى تدخل المنظمات الدولية واستخدام نقاط القوة في المفاوضات مع دول المنبع.