اخر الاخبار

قد أكون مبالغا أو مضخما للأدوار، ولكني لا أجانب الحقيقة إذا قلت إن الكثير من الشيوعيين تميزوا بخصائص لا تتوفر في الآخرين، وأصبحت ميسما لهم، وعلامة دالة عليهم، فالتضحية والإيثار، والأمانة والعفة والنزاهة ونكران الذات والعلاقات الاجتماعية الحميمة والمبدئية العالية والإخلاص المنقطع النضير، إلى صفات أخرى محببة، كانت علامات فارقة لهم جعلتهم مثلا أعلى، ولا زالوا- رغم تغير الحياة وتبدل المجتمعات- على ذات الصفات التي جبلوا عليها، مما جعل لهم رصيدا جماهيريا بشهادة حتى الأعداء.

  وهناك ميزة قد لا يقرني عليها الآخرون، تلك هي الروح المرحة والدعابة المحببة حتى في أحلك الظروف، وأشد المواقف، فالابتسامة الشيوعية كثيرا ما أرعبت جلاديهم، أو جعلتهم يتميزون غيضا منها، وشاهدت الكثير من هذه المواقف لرفاق أعزة، كانت سياط البغي  التي تدمي أجسادهم، لا تمنعهم من مواجهة جلاديهم ببسمة هازئة، أو ضحكة مجلجلة، قد تدفعهم إلى القسوة المفرطة في تعذيبهم، ومن هؤلاء المربي الفاضل والوجه الوطني، علي حسين الصگـر، الذي ولد عام 1942 وأكمل دراسته الابتدائية في القاسم، والمتوسطة في المدحتية،  وبعد تخرجه عين معلما في مدارس المحافظة فكان مثالا للمربي الفاضل والمعلم المخلص الحريص على أداء واجبه وتأدية رسالته.

أنتمى للحزب الشيوعي العراقي بعد ثورة الرابع عشر من تموز وكان معه في خلية المعلمين فاضل نوح وحسن سعيد وجليل إبراهيم وغيرهم، كان طلعة بارزة بين أقرانه، ودودا أليفا طيبا ناكرا للذات، يبذل من نفسه للآخرين ويعيش من أجلهم، فيجود بما يملك لكل من عرفه وكسب وده، وكان ملجأ للكثير من أقرانه عندما تصيبهم ضائقة أو عوز مادي، فلا يتورع  عن إعطاء كل ما لديه، أو الاقتراض لرد الغائلة عن صديق، وكان بيته الملاذ الآمن والحصن الحصين لرفاقه من المدينة أو خارجها، يقصده الرفاق من خارج المدينة، فيجدون فيه ما تشتهي الأنفس، وكان لدعابته المحببة، وابتسامته العريضة، وحفاوته البالغة، الأثر في كثرة علاقاته الاجتماعية، فترى داره مثابة الأديب، وملهمة الشاعر، ومسرح الفنان، ومخبأ المطلوب للسلطة، ولا زال أثر تلك الأماسي ماثلا في مخيلة عارفيه، وحية في قلوب كثيرين ممن حضرها أو شارك فيها.

وقد أثارت شخصيته الرصينة، الكلاب البوليسية النهمة، فكان عرضة للاعتقال والمداهمة، وضيفا مؤقتا للسجون، وقد ترك الحزب ليصبح شيوعيا غير منظم، أو يكون عضوا في الحزب على الطريقة الكلاسيكية في الترشيح واكتساب العضوية، أو حضور الاجتماعات، فكان هو الحزب ذاته دون أن يؤطره بانتماء رسمي، وداره مهيأة للاجتماعات الحزبية، رغم السرية التي تحيط تلك الاجتماعات، وكانت الهيئة القيادية تجتمع في داره، أو في بساتينهم المحيطة بالدار، وكانت الإشارة المتفق عليها، بين الخلية ومسؤولها، المصباح الخارجي للباب فإذا كان منطفأ فهذا يعني إن الاجتماع مؤجل لسبب طارئ، وأن كان مضاء فما عليك إلا دفع الباب والدخول دون الحاجة لطرقها، فقد جعل جزءا من داره  للضيوف، بمعزل عن دار العائلة، وهذه الدار مهيأة دوما لاستقبال الرفاق أو ضيوفهم، وإذا حدثت مداهمة أو “زرگـة” كما تسمى، فالمجال واسع لتسلل الرفاق إلى البستان الواسع المحيط بها، وكثيرا ما أقيمت فيها الاحتفالات الخاصة بالمناسبات الوطنية، وخصوصا أيام الجبهة، فكان ينفق فيها عن سعة دون أن يكلف الحزب شيئا من نفقة، وهذا ديدنه في مثل هذه الأمور.

لقد كان مواكبا ومشاركا في كل المسيرات والمظاهرات والاحتفالات، وله علاقات مميزة بكثير من الكوادر الحزبية، في المحافظة أو خارجها، ولكنه لا يستطيع الالتزام بما يتطلب الانتماء من ضبط حديدي كان السمة المميزة للشيوعيين، وكثيرا ما عقدت الاجتماعات في داره بحضوره أو دونه، دون أن يشارك في رأي أو قرار، ولكن لو سألت أي إنسان في المدينة عنه، لما جانب الحقيقة إذا قال إنه شيوعي، ولعله أكثر إخلاصا من كثيرين انتموا رسميا للحزب وساروا في طرق متعرجة، أو أفشوا أسراره وأصبحوا وبالا عليه.

وقد أثار نشاطه هاجس الأمن والبعثيين فحاولوا الضغط عليه فلم يزده ذلك إلا إصرارا، بل كان يواجههم في بعض الأحيان بالقارص من الكلام لما له من دالة وتأثير وأفضال سابقة، وما لأسرته من تأثير اجتماعي في المنطقة، بوصفهم (قوام) ودورهم مثابة ودار ضيافة للوافدين إلى المدينة، وما عرف عنه من روح اقتحاميه لا تعرف المواربة والمجاملة.

   ومما أتذكر أن البعثيين أبان محاكمات المهداوي ذائعة الصيت، كانوا يرسلون بعض الأشقياء إلى المقهى الوحيدة التي فيها تلفزيون في تلك الفترة، وهي مقهى المرحوم الرفيق الحاج عبد الشهيد الحاج عبود (أبو رشيد) وتنقل وقائع المحكمة، فكان هؤلاء يفتعلون شجارا، أو يثيرون لغطا، للتشويش عليها،  وصرف الناس عن متابعتها، فقام الشهيد بتحريك بعض الأشقياء لمقابلتهم بالمثل، فكانوا يقفون لهم بالمرصاد، لمنعهم من الدخول، وقد تحدث معركة بين الجانبين، فيقوم المناوئون بالشكوى لدى الجهات الحكومية، فيلقى القبض على الأشقياء،  فكان الرفاق يبذلون الجهد لإخراجهم بما لهم من رصيد تلك الأيام، وفي مقدمتهم الرفيق على بما يمتلك من نفوذ فيطلق سراحهم بكفالة،  ويتكفل بمصاريفهم ونفقتهم عن فترة توقيفهم من ماله الخاص، وله في هذا الجانب حكايات كثيرة لا يسع المجال لإيرادها.

وفي مجال المساعدات الإنسانية، كان معروفا بمساعدة الفقراء، وقد وهب الكثير من العوائل الفقيرة قطع أراض مجانية لتشييد دور عليها، وكانت أراضيهم المحيطة بالمدينة مباحة للفقراء، ولا زال كثيرون منهم يتحدثون بهذه المآثر،  وبعد سقوط النظام، أقيمت احتفالية في مركز الشباب لتأبين الشهداء فأنشدت قصيدة في تأبينه، وبعد انتهائي من القصيدة، اندفعت أحدى موظفات المركز، لتقدم لي الشكر، ولمعرفتي بعدم قرابتها للفقيد، ظهرت علامات الاستغراب على وجهي،  فقالت: لقد جعل مني الشهيد شيئا، فقد ولدت يتيمة الأب فتكفلت أمي تربيتي، ولظروفنا المالية الصعبة، قام المرحوم برعايتي وإدخالي المدرسة،  وتكفل بكل مصاريفي الدراسية من الملبس حتى المصروف اليومي، حتى أكملت دراستي، وعينت في هذا المركز، ولولاه لكنت أمية جاهلة.

وبعد أتفاق الجبهة،  وبدأ الحزب بالعمل العلني، كان له الدور المؤثر في النشاط السياسي، رغم عدم انتمائه الرسمي كما بينا، فقد كان لصيقا بالحزب بشكل مباشر، مساهما في نشاطاته المختلفة، داعما له ماديا ومعنويا، بذل وقته وجهده وماله في كافة الميادين التي للحزب نشاط فيها، لذلك كان للبعثيين موقفهم منه بعد الجبهة، ولكن معرفتهم بعدم انتمائه، وعدم وجود اعترافات عليه، والتأثير الاجتماعي لأسرته، أنجاه مما خطط له، وكان له أن ينجوا من براثنهم، لولا أقدامه الجريء الهازئ بالعواقب، فقد قامت السلطة الصدامية بإعدام وحبس كثيرين من الشيوعيين وغيبت أثارهم لحد الآن، فكان أبو وميض بما ذكرنا من سجاياه ومناقبه، سباقا لتقديم العون لعائلاتهم، وتفقد أحوالهم، ومساعدتهم على مواجهة أعباء الحياة، فاستدعاه الأمن وحذره من مغبة تقديم العون والمساعدة لعائلات المعدومين، إلا أنه أصر على ذلك ورفض الانصياع لما يريدون، بل تمادى أكثر من ذلك، فكانت سيارته (اللادا) البيضاء، تنتقل من مكان إلى آخر، في زيارة لهذه العائلة أو تلك، وتم مفاتحة شقيقه الأستاذ جاسم الصگـر بالأمر، ولكنه لم يرتدع.

وذات يوم كان ذاهبا إلى مدينة الديوانية لزيارة عائلة أحد الرفاق الذين أعدمهم النظام البائد، رغم تحذير الأمن له من زيارة هذه العائلة حصرا، وعند خروجه، أقتاده رجال أمن الديوانية إلى مكان مجهول، وقد غابت أثاره، ورغم تشبث عائلته بالبحث عنه، لم تتمكن من العثور عليه أو معرفة  مكانه، وفي انتفاضة آذار1991 لمشاركة أبنائه في الانتفاضة، قام الأمن بإحراق داره ونهب محتوياتها، وبعد سقوط النظام، قام أبناؤه بالبحث عنه، فلم يعثروا له على أثر، رغم بحثهم في المقابر التي تم اكتشافها، وقد تمكنت قيادة الحزب في  الحلة من العثور على قرار الحكم الصادر من محكمة الثورة القاضي بإعدامه ومصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة، إلى جانب أسماء أخرى لشهداء الحزب الشيوعي العراقي.

وقد عثرنا على وثيقة صادرة من مديرية الامن العامة فيها أن الشهيد ورفاقه قد دفنوا في مقابر محمد السكران بعد اعدامهم عام 1983.

لك المجد والخلود أيها الراحل الكريم، فها هم أبناؤك الذين ورثوا مخايلك وسجاياك النبيلة، يقتفون آثارك، ويناضلون بأقدام وجرأة لمواصلة مسيرتك النضالية، كما كنت تتمنى لهم أن يكونوا، وها هي الراية التي استشهدت تحت لوائها خفاقة في ربوع العراق الجديد.