برغم حجم التحديات البيئية التي تواجهها البلاد، ما تزال وزارة البيئة في العراق تُعامل كوزارة هامشية، ذات دور رقابي محدود، لا كوزارة سيادية قادرة على فرض القوانين وتنفيذ البرامج الاستراتيجية.
ويجمع مختصون ومراقبون على أن غياب الدعم المالي الكافي جعل الوزارة تعتمد بشكل متزايد على التمويل الخارجي من صناديق ومنظمات دولية، وهو ما ساهم في تنفيذ بعض المشاريع، لكنه لم يحقق تحولاً جوهرياً في إدارة الملف البيئي.
وفي الوقت نفسه، تبقى البيئة خارج دائرة الأولويات السياسية، حيث تُمنح الوزارات الأمنية والنفطية الحصة الكبرى من الاهتمام والتخصيصات، بينما تُترك وزارة البيئة على هامش الاهتمام الرسمي، رغم أن التغير المناخي يهدد الأمن المائي والغذائي والاقتصادي للبلاد
وزارة ثانوية
في هذا الصدد، حذّر الخبير البيئي أحمد صالح نعمة من استمرار النظرة القاصرة الى وزارة البيئة باعتبارها جهة رقابية فقط، مؤكداً أن هذا الواقع يشكّل أحد أبرز أسباب عجز الدولة عن مواجهة التحديات البيئية المتفاقمة في العراق.
وقال لـ"طريق الشعب"، ان “وزارة البيئة ما تزال تُعامل كوزارة ثانوية ذات صلاحيات محدودة، في حين أن طبيعة التحديات البيئية في العراق تتطلب أن تتحول إلى مؤسسة تنفيذية فاعلة تمتلك القرار والموارد، وقادرة على فرض القوانين والتعليمات والإجراءات الرادعة بحق المخالفين”.
وأضاف نعمة ان “حصر دور الوزارة في الجانب الرقابي فقط أدى الى تعطيل الكثير من أعمالها، سواء على صعيد المنع المبكر أو التوعية المجتمعية أو التصحيح الميداني، وهو ما جعلها بعيدة عن قدرتها على التدخل المباشر في معالجة الأزمات البيئية”.
وأوضح الخبير البيئي أن العراق يمرّ حالياً بـ”فترات جفاف شديدة وغير مسبوقة”، إلى جانب “انتهاكات واسعة للنظام البيولوجي”، لافتاً إلى أن هذه التحديات تنعكس بصورة مباشرة على حياة المواطنين، سواء من خلال نقص المياه وتراجع الزراعة وتدهور الغطاء النباتي، أو من خلال انقراض أنواع حيوية من الكائنات نتيجة الصيد الجائر والتجاوز على البيئة الطبيعية."
وبيّن نعمة أن “الوزارة بحاجة إلى موازنات مالية كبيرة تُمكّنها من إطلاق مشاريع استراتيجية وحملات رقابية وتنفيذية واسعة، تشمل مراقبة الأنهار والسدود ومصادر المياه، وضبط المخالفات الصناعية، فضلاً عن مواجهة الصيد الجائر والتجاوزات المتكررة من قبل بعض الصيادين والحرف والمصانع التي لا تلتزم بمعايير السلامة البيئية”.
وأضاف أن “ضعف التخصيصات المالية جعل وزارة البيئة عاجزة عن بناء أجهزة رقابية حديثة أو تشغيل فرق ميدانية متخصصة، فضلاً عن ضعف القدرة على دعم مراكز البحث والدراسات البيئية، وهو ما يحدّ من وضع حلول علمية وعملية لمشاكل متراكمة تتفاقم عاماً بعد آخر”.
ودعا كذلك الى “إعادة النظر في هيكلة الوزارة وتوسيع صلاحياتها التنفيذية، بما يسمح لها باتخاذ قرارات حاسمة في مواجهة التحديات البيئية، وفرض الغرامات والعقوبات الرادعة بحق الجهات المخالفة، إضافة إلى تعزيز التعاون مع وزارات أخرى مثل الزراعة والموارد المائية والصحة، لضمان تكامل الجهود في حماية النظام البيئي”.
وختم بالقول إن “مستقبل الأمن البيئي في العراق مرهون بمدى جدية الدولة في التعامل مع وزارة البيئة كوزارة سيادية ذات ثقل تنفيذي ومالي، لا كجهة شكلية محدودة الإمكانيات، لأن أي تأخير في هذا الاتجاه يعني خسائر مضاعفة في المياه والتربة والتنوع البيولوجي، وانعكاسات خطيرة على حياة الانسان والاقتصاد الوطني".
موازنة محدودة
من جهته، اكد عضو المرصد العراقي الأخضر عمر عبد اللطيف أن وزارة البيئة تعاني منذ سنوات من ضعف التمويل الحكومي، إذ تُصنَّف ضمن الفئة “C” في الموازنة العامة، إلى جانب وزارات مثل الشباب والرياضة، والثقافة، والهجرة والمهجرين، وهو ما انعكس سلباً على قدرتها في أداء مهامها الحيوية.
وقال في حديث لـ"طريق الشعب"، إن “موازنة وزارة البيئة محدودة للغاية، الأمر الذي جعلها تعتمد بشكل شبه كلي على التمويل الدولي، ولا سيما من صندوق المناخ الأخضر وبرامج الأمم المتحدة المعنية بالبيئة”، مبيناً أن “حجم التمويل الذي تحصل عليه الوزارة من هذه المنظمات في كثير من الأحيان يفوق مخصصاتها الحكومية السنوية”.
وأشار الى أن هذا الدعم الدولي مكّن الوزارة من تحقيق بعض التقدم في برامج مواجهة التغير المناخي خلال السنوات الأخيرة، لكن الاعتماد على المنح وحدها لا يكفي لمواجهة حجم التحديات البيئية في العراق، مؤكداً أن “المطلوب هو ان تُعامل الوزارة كوزارة سيادية وتُمنح تخصيصات مالية كبيرة تمكّنها من بناء برامج وطنية مستقلة ومستدامة”.
وأضاف عبد اللطيف ان “النموذج الامثل يمكن ملاحظته في دول متقدمة مثل اليابان، حيث تُعد وزارة البيئة وزارة سيادية ذات قرار ونفوذ، تماماً كما هو الحال في العراق بالنسبة لوزارات الدفاع والداخلية، التي تحظى عادة بالاهتمام السياسي وتدخل ضمن صفقات المحاصصة بين الكتل”.
وبيّن ان المشكلة في العراق "تكمن في غياب الوعي بأهمية البيئة، رغم أن البلاد تعاني بشكل مباشر من تداعيات التغير المناخي، سواء من خلال شح المياه والجفاف أو التلوث الناتج عن الصناعة والاستخراجات النفطية وغيرها".
وأضاف “ما زلنا نعتبر وزارة النفط، وهي من أبرز مسببات التلوث في البلاد، أهم وأعلى من وزارة البيئة، لأن اقتصاد العراق ريعي يعتمد على النفط، بينما يتم تهميش وزارة البيئة التي يُفترض أن تكون خط الدفاع الأول عن صحة المواطنين وموارد البلاد الطبيعية”.
ولفت الى أن “العراق لم يبلغ بعد مرحلة النضج التي تؤهله لاعتبار وزارة البيئة ضمن الوزارات السيادية، وما زال ينظر إليها كوزارة ثانوية”.
لكنه أكد أن “الواقع المناخي المتدهور في البلاد يفرض اعادة النظر في هذه المقاربة، وضرورة رفع التخصيصات المالية للوزارة لتكون قادرة على مواجهة التغيرات المناخية وحماية البيئة العراقية بشكل فعّال”.
رهينة المنح الخارجية
الى ذلك، قال المراقب للشأن البيئي حيدر رشاد، إن تعامل صناع القرار مع وزارة البيئة ما زال يتسم بالسطحية وعدم إدراك حجم المخاطر التي تهدد العراق، مشيراً إلى أن النظرة السائدة للوزارة باعتبارها جهة ثانوية انعكست على ضعف دورها في مواجهة الكوارث البيئية التي تتسع عاماً بعد آخر.
وأضاف في حديث مع "طريق الشعب"، أن العراق "يواجه اليوم أزمات مركبة، تبدأ من شح المياه والجفاف والتصحر، ولا تنتهي عند التلوث الصناعي والصحي وازدياد العواصف الغبارية"، مبيناً أن “هذه التحديات تستلزم وجود مؤسسة قوية وتمتلك الصلاحيات والموارد اللازمة للتدخل المباشر، لان تكون مجرد جهة رقابية محدودة الصلاحيات”.
وأوضح رشاد، أن “غياب الدعم المالي الكافي جعل الوزارة رهينة للمنح الخارجية والمساعدات الدولية”، لافتاً إلى أن “هذا الاعتماد وإن كان ساهم في تمويل بعض البرامج، إلا أنه لا يمكن أن يشكل بديلاً دائماً عن تخصيصات وطنية رصينة تضمن استمرارية العمل البيئي”.
ودعا في ختام حديثه إلى “التعامل مع وزارة البيئة بوصفها وزارة سيادية تمثل صمام أمان للأمن الوطني، تماماً كما ينظر الى الدفاع والداخلية والخارجية”، مؤكداً أن “العراق لن يتمكن من مواجهة موجات التغير المناخي الخطيرة الا إذا أُعيد النظر جذرياً بمكانة الوزارة وصلاحياتها ضمن هيكل الدولة”.