ولعلك سمعت عن موقف العميد طه حسين من قرار الملك فؤاد، بمنح بعض (أنصاره) شهادة دكتوراه فخرية، وكيف ان وزير المعارف المصري حينذاك محمد حلمي باشا حثّ مدير الجامعة على الإسراع في «تنفيذ» الأمر، وكيف ان عميد كلية الآداب رفض هذا القرار رفضا مهنيا؛ لأن الجامعة لا شأن لها بالسياسة، وقراراتها تقترح من الكلية ويصادق عليها مجلس الجامعة. ولعلك ايضا علمت بغضب الملك وإصداره أمرأ بنقل طه حسين إلى الوزارة. لكن هل أتاك حديث الطلبة وشعاراتهم الغاضبة، يوم أضربوا عن الدوام وآزرهم الأساتذة؟ وقد عمد الوزير الى فصل العميد طه حسين من الوظيفة، فما كان من رئيس الجامعة أحمد لطفي السيد الا ان يستقيل من منصبه، وبذلك انتصرت إرادة العميد الضرير طه حسين على السلطان !

انظر أين ذهبتُ وأتعبتك بالأسئلة المصرية!!

كان علي أن أتحدث عن واقعي العراقي: الأكاديمي والعلمي والمعرفي بل حتى الوظيفي؛ وأرجو أن يتسع صدرك لسماع المفاجآت، لأنك – حتماً- ستغضب جدًا على أحوالي: ربما لا تصدقني لو قلت لك إن إحدى شقيقاتي من جامعاتنا العراقية شهدت ( رئيسين !!) في عام 2008 لا كذّبني الله. واحد عيّنه المالكي والثاني عيّنه ذياب العجيلي، والسابق جالس في مكتبه والآخر في مكتب المساعد؛ يوقع ما يشاء صاحب الطلب وكلمة (موافق) تكتب قبل قراءة العريضة. علمًا أن الشرع الإداري يحرّم أن يجمع المنصب بين رئيسين في وقت واحد. ولو كان أحدهما بالسرّ لمشي الأمر؛ ولكنهما ضرتان في بيت واحد !.

ولعلك - هذه المرة - لا تصدقني حين أنبيك أن مسؤولًا رفيعًا جدا قد تعذر حضوره لأداء الامتحان في الماجستير، فأُجّل الامتحان كله إكرامًا لإيمانه القويم وعطائه الوطني الرفيع.. ولأنه الكريم السخيّ فقد أكرم لجنة مناقشته أيما كرم، يوم صار وزيراً للتعليم: المشرف مديرًا لمكتبه ، وأحد المناقشين مديرا عاما في الوزارة، وثالثهم ملحقا ثقافيا في إحدى السفارات..

أتعلم يا سيادة (الأمر) أنني منقادة للمحاصصة؟ أتصدق أنني أرغمت على استقبال رئيس كل مجهوده العلمي أن الحزب الفلاني استحوذ عليّ.. بالله عليك هل يصدق أحد كلامي هذا، وأنا في العراق، فأنا مرغمة على البوح لك وهل من عراقي يصدق أن الجامعات تتدخل فيها الأحزاب ؟!!

وكنت أود أن أخبرك بأمر آخر، لكن ماذا أفعل إذا كانت الحقيقة أكبر من أن تستوعبها؟ اعذرني، سأتجرأ وأفشي سرها الذي لا يعلمه أحد في القلعة الحصينة: إن كلية الآداب في الجامعة المستنصرية، بلا عميد منذ سنتين أو ثلاث وأظنها ثلاثًا. وأعتقد أن السبب وراء ذلك هو عدم وجود ذوي ألقاب علمية رفيعة في الكلية، أو أنها عجزت عن إقناع أحد تدريسييها بتولي المهمة. وسمعت أن الإعلان عن استقبال المرشحين بقي شاغرًا لسنوات! وقد أضرب الأساتذة عن الدوام وتبعهم طلبتهم،  وضجت صفحات التواصل الاجتماعي بالاحتجاج الأكاديمي، فاضطر رئيس الوزراء على اصدار بيان يشرح الموقف ويبرد غضب المحتجين في الجامعة.. وحزنت كثيرًا حين قال رئيس الوزراء للمدراء العامين والعمداء الذين التقى بهم قبل شهر أو أكثر، قال: لا أسمح للمحاصصة أن تقتحم الإدارة..

أتعلم لماذا حزنت؟ لأني أسأت الظن به وتصورت أن السبب في فراغ مكتب العميد من صاحبه في كلية الآداب، هو التنافس الحزبي على تولي المنصب.. أرجوك اغفر لي سوء ظني، وليسامحني - بقلبه الأبيض - السوداني.

اشغلتك كثيرا بالإداريات وتركت الشؤون العلمية.. تعال لأحدثك عن مؤتمر علمي عقد في كلية إحدى شقيقاتي من الجامعات. أخبرني أحد المشاركين بإدارة الجلسات العلمية ، قال: شهد صباح المؤتمر كرنفالًا جميلًا يسوده الفرح وأناقة الملابس الرسمية وغير الرسمية، واحتشدت القاعة بالتصفيق لكلمات المسؤولين وأعلن العريف أن هنالك باحثين عربًا موجودين بيننا وسيقدمون أوراقًا نقدية مهمة..

 تشوقت كثيرا لإدارة الجلسة ومضى الوقت بطيئا من شدة الشوق فتوجهت إلى الجلسة النقدية، فشهدت نجاحًا علميا منقطع النظير لم أره من قبل؛ فالقاعة صماء بكماء خالية من كل شيء إلا الكراسي. ثم بعد دقائق ليست بالقليلة جاء حشد من الأكاديميين هم: الضيفان العربيان ومعهما صديقان عراقيان فصار العدد أربعة، وأضيف لهم رئيس الجلسة إذن صرنا ستة والحمد لله، وكان هذا العدد الكلي للمحاضرين والمناقشين والمشاركين ولمديري الجلسة..

ثم جاء اليوم الثاني فخلت إحدى الجلسات من الباحثين أصلًا !! بالله عليك أيعقل أن تكون حال المؤتمرات العلمية بهذا الشكل؟ ها تذكرت الآن شيئا آخر: وأنا أدير الجلسة السداسية أخبرني أحد الموظفين أن باحثة من الجزائر تعذر حضورها وستلقي بحثها عبر (الشاشة) التي هي غير موجودة في القاعة. فدخلت موظفة تحتضن جهاز اللابتوب، وتطلب مني الحذر في الكلام لأن الباحثة الجزائرية على (الهواء) مباشرة محبوسة في شاشة اللابتوب، وبعد الإصغاء لم نسمعها ولم تسمعنا، ولا أدري أين صفا بها الدهر الآن.

 لا شك يا (أميري) أن ما ذكرتُه لك غيض من فيض، أو لا يمثل الحقيقية الكلية، وأنا تعمدت أن أذكر ما يحرق دم الغيور وأغضّ النظر عن العاملين بالقسط والعدل، لأنه واجبهم بل هو أقل من الواجب. فلا شكر لمن أدى الرسالة حسب القوانين والنواميس والقيم الأخلاقية، فهو عمل براتب وفير وأجور سخية، لم يقدم معروفًا أو صدقة، وإنما هي (المهنية الإنسانية) الواجبة على من تقلد منصبًا أو كُلف بإدارة، و لم أسمع يومًا أن مسؤولا ثريا - وهل يوجد مسؤول فقير والعياذ بالله - ،تبرع من ماله الخاص ببناء كلية تابعة لجامعة حكومية أو قسم علمي في كلية.. ولكن والحق يقال بنى المسؤول العديد من الكليات الأهلية التي صنعت من المفارقات ما لا تصنعه الروايات.. بحيث يُقبل طالب بإحدى الكليات الطبية الأهلية وهو بمعدل 70 في المائة مثلا.. بينما الحاصل على معدل 98 في المائة يقبل في المعهد الحكومي!!

 تمنيت أن أجد زاوية مشرقة في أروقتي العلمية، أبرّد بها قلبك الحار، فلمّا أجد، وإن سألتني وماذا عن محاضرات الدراسات العليا والموضوعات والمناقشات، سأخبرك أنها على خير ما يرام وما زالت تتنفس هواءً علميا نقيًّا. ولكن يا أخي ما نفع ذلك إذا كان هذا العطاء المعرفي المولود ولادة طبيعية ينافسه على وظيفته مَنْ وُلد ولادة علمية قيصرية، أجريت له العملية الناجحة والمضمونة في إحدى المستشفيات الأكاديمية بالدول القريبة من العراق..

في ختام رسالتي يا سيدي لك مني فائق الشكر والاحترام والتقدير على حسن الإصغاء، إذ لم أحدث مسؤولاً من قبل إلا وقاطعني قبل أن أنهي كلامي..

أرجو أن تبرئني الذمة قبل أن تفتقدني، فإن نسلي سينقطع لأن الصلة عند العرب ترتبط بالنسل، وأنا ما عدت قادرة على ولادة (العقل).

ـــــــــــــ

*اكاديمي وناقد

عرض مقالات: