منذ ان بدأ الجهد الهندسي الايراني بشق الطرق والمسالك بأتجاه حلبجة، أدركت أي مصير قاسي ومؤلم ومظلم ينتظر المدينة وأهلها.

كانت سريتنا التابعة للفوج السابع هورمان لانصار الحزب الشيوعي العراقي قد بنينا مقراً لنا من أنقاض قرية موردين الواقعة على سفح جبل بلامبو (والذي ينتهي بنهر سيروان او مايسمى في المناطق العربية بنهر ديالى وهو الحد الفاصل بين الحدود العراقية والايرانية)، والتي كانت يوماً عامرة بأهلها وبساتينها، قبل ان يسوي النظام المقبور القرية بالارض وحرق بساتينها اوائل السبعينات، ضمن محاولته لاخلاء الشريط الحدودي من السكان حسب اتفاقية الجزائر مع شاه ايران.

في تلك الفترة كانت سريتنا في غاية النشاط والحيوية، بحيث لم يمر يوم اذا لم تكن لنا مفرزة انصارية تخترق الحدود وتدخل مدينة حلبجة سواء في مهمة عسكرية او تنظيمية بالتعاون مع رفاقنا في تنظيم الداخل الذي كان في غاية الفعالية، وفي عدة مهمات عسكرية استطعنا من أسر عدد من عناصر الاجهزة الامنية للنظام، وفي نفس تلك الفترة بدأت القوات الايرانية بالتدفق بأتجاه الاراضي العراقية عابرة نهر سيروان.

طلبت ايران تسليمها الاسرى الذين لدينا للتحقيق معهم والحصول على المعلومات عن طريقهم، وبما انه لم تكن للحزب الشيوعي العراقي وقواته الانصارية اي نوع من العلاقة مع ايران، لذلك تم رفض ذلك الامر عن طريق الاحزاب التي كانت لها علاقة وتعاون مع النظام الإيراني.

وعلى الرغم من كثرة المغريات التي قدمت لقيادة رفاقنا في السرية، الا ان جواب الرفيق المسوؤل كان حازماً وقاطعاً، قائلاً لهم: صحيح ان هؤلاء الاسرى من القوات الامنية للنظام وهم اعداؤنا واعداء شعبنا، الا انهم يبقون عراقيون ولن نسلمهم لجهة اجنبية مهما كانت المغريات المقدمة.

وعلى اثر ذلك نقلت لنا الاحزاب التي لها علاقة مع ايران، تحذيراً شديد اللهجة من ايران، بأخلاء مقرنا خلال 24 ساعة والا فأنه سيكون هدفاً للمدفعية الايرانية، وبالفعل اطلقت قديفة مدفعية مباشرة بالقرب من مقرنا كرسالة تحذيرية!

وعلى الرغم من كل الصعوبات والمخاطر قررنا التوجه نحو الاراضي العراقية، ورفض رفاقنا القياديين العرض الايراني بنقلنا عن طريق الاراضي الايرانية بأتجاه مقرات حزبنا في منطقة بادينان، دخلنا مدينة حلبجة وقام بعض رفاقنا بتحذير بعض العائلات بضرورة الخروج من المدينة فوراً، لان المدينة ستتعرض لاجتياح القوات الايرانية وما يمكن ان ينجم عن ذلك؟

بعد ذلك توجهت قواتنا نحو قرى سهل شهرزور المحيطة بمدينة حلبجة، كنا وكأننا نجلس في سينما نشاهد فيلماً حربياً، حيث تجري المعارك داخل المدينة وحولها، وتبادل قذائف المدفعية بمختلف انواعها، بعد ذلك بدأت اسراب الطائرات العراقية، سرب يتلو الآخر بقصف المدينة، كان القصف الاول ينتج عنه انفجارات عنيفة، وكما يبدو من خلال اللهب المتصاعد في السماء، ان بعض تلك القنابل كان نابالم حارق، وجاءت طائرات اخرى ورمت بصواريخها على المدينة، ولكن لم يكن هناك صدى عنيف لانفجارها، ويتضح مدى حقد النظام على حلبجة وأهلها والتي اقضت مضاجع النظام في عز قوته، لذلك قصف المدينة اولاً بقذائف انفجارية والنابالم، مما اضطر سكان المدينة الى اللجوء للسردايب والملاجئ تحت الارض، وفي ما يقرب من الساعة الحادية عشرة و35 دقيقة ظهر يوم 16/ 3 تم استخدم الاسلحة الكيمياوية من اجل ايقاع اكبر عدد من القتلى بين المواطنين.

 كان معظم رفاقنا في الفوج السابع هورمان من أهالي مدينة حلبجة والمناطق المحيطة بها، لذلك كان الكثير منهم يفرح عندما يتم قصف المدينة ولايحدث ذلك القصف انفجاراً، كانوا يضنون ان القذائف فاسدة، ولكننا وبعض الرفاق كنا ندرك ان المدينة يتم قصفها بالاسلحة الكيميائية، لاننا عشنا تجربة القصف بالاسلحة الكيميائية قبل ذلك، عندما تم قصفا من قبل الطائرات الحربية في قرية كوشان بعد تحرير ناحية قرداغ.  كان سهل شهرزور يشكل في تلك اللحظة لوحة سوريالية لايمكن تخيلها، المئات من الجنود الفارين من مناطق القتال هائمين على انفسهم لايعرفون ماذا يفعلون؟ ومئات من عناصر بيشمركة أحزاب كردية معهم عناصر من البازدار الايراني، يجوبون المنطقة لأسر اولئك الجنود والذين كانوا يتخوفون من الذهاب بأتجاه القوات العراقية.

 كنا نمسك بالجنود العراقيين ومن ضمنهم ضباط ليس من اجل أسرهم بل كنا نرشدهم الى مواقع معسكرات القوات العراقية من اجل انقاذهم من الوقوع في الاسر، مع ان بعضهم طلبوا البقاء معنا خوفاً من مفارز الاعدام التابعة للنظام.

كانت مفرزتنا قد اصبحت بين المطرقة والسندان، القوات الايرانية من جهة والقوات العراقية التي تقدمت لصد الهجوم الايراني من جهة اخرى، وكلا الطرفين ليس له ود نحونا.

ولن أتحدث عن لحظات الحصار التي عشناها في تلك الفترة والمعاناة الكبيرة والكثيرة التي مرت علينا، فقد يكون لذلك مجال آخر لكي نرويها.

وبعملية تميزت بالجرئة والمخاطرة والشجاعة، استطاعت قوتنا الوصول الى مقرنا في قرية ( شيوي قازي ) في قرداغ، ولم نتمكن من التمتع بأستراحة ولو قصيرة بعد تلك الرحلة المتعبة، اذ لم تمض سوى ساعات قليلة حتى بدأت عمليات الانفال سيئة الصيت بأتجاه منطقة قرداغ.

لقد أسفر الهجوم الوحشي والهمجي بالاسلحة الكيمياوية عن أستشهاد مالايقل عن (5000) آلاف مواطن واصابة أكثر من (10000) آخرين جميعهم من المدنيين، ولازالت المدينة وعلى الرغم من الفترة الطويلة على استخدام تلك الاسلحة تعاني من تلوث تربتها وهوائها ومياهها، كما ان المدينة واهلها يعانون من الانتشار الواسع لمرض السرطان بين سكانها وكثرة الولادات المشوهة.

وعلى الرغم من ان مأساة حلبجة تعتبر على المستوى العالمي ثاني أكبر ابادة جماعية بعد العملية الاجرامية للولايات المتحدة الامريكية بقصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي بالاسلحة النووية، الا ان مدينة حلبجة لازالت تعاني الاهمال، سواء من حكومة الاقليم او الحكومة الفيدرالية، لذلك لم يكن غريباً ان يعلن أهالي المدينة لعدة مرات في الذكرى السنوية لهذه الماساة عن رفضهم وعدم السماح للمسوؤلين الحكوميين من المشاركة في احياء المناسبة، كما عبر اهالي المدينة عن جزعهم من اهمال السلطات الرسمية للمدينة بقيام البعض منهم بأحراق النصب الذين أقامته السلطة لتخليد ضحايا القصف الكيمياوي.

وكان معظم المواطنين بما فيهم نحن كنا نتوقع ان دول اوربا الاشتراكية هي التي زودت النظام بتلك الاسلحة الكيمياوية، ليتضح بعد سقوط النظام والوثائق التي كشف عنها، ان المورد الاساسي لمكونات الاسلحة الكيمياوية هي حكومات بلجيكا وهولندا بالدرجة الاساس وشركات فرنسية وبريطانية هي التي امدت النظام بمكونات تلك الاسلحة.

 ونتعجب الآن ونتساءل لماذا لم تقم حكومة الاقليم او الحكومة المركزية بتقديم دعوى قضائية ضد تلك الدول والشركات واجبارها على تقديم الاعتذار عن افعالها الشنيعة ومطالبتها بتعويضات مادية لضحايا تلك المجزرة ومساعدة الجرحى الذين لايزالون يعانون من إصاباتهم؟!

من الجدير بالذكر ان الكونغرس الامريكي وبعد عدة ايام من مأساة حلبجة، أصدر بياناً أكد فيه ان انواع الاسلحة الكيمياوية المستخدمة في مهاجمة مدينة حلبجة لا يملكها النظام العراقي منها، في محاولة سقيمة وعقيمة بذلتها الحكومة الامريكية لتبرئة نظام صدام من هذه الجريمة، وكذلك فعلت الحكومة البريطانية، التي تذرعت بضرورة التواصل مع نظام صدام لكي لايرتكب جرائم اخرى اكبر واكثر!

عرض مقالات: