تدفعنا الملاحظات السابقة الى التساؤل التالي: هل هناك تأثيرات للدخول الريعية، والتي تمثلها بشكل اساسي الريوع النفطية، على الاقتصاد والطبقات الاجتماعية قبل وبعد 2003؟
الجواب على ذلك: نعم. الفكرة بسيطة: فالنظام في العادة لا يقيم سيطرته على العنف فقط ولكن أيضاً على توزيع العطايا والمنافع لفئة (أو مجموعة فئات وشرائح) تصبح هي قاعدته الاجتماعية. فعند تعاظم الموارد المالية الآتية من الريوع النفطية تحديدا، يربح النظام قواعد يضمن ولائها بالمال.
وبالمقابل فالفئات والشرائح الاجتماعية التي تشكل قاعدة النظام تتألف عادة من «جماعات وطوائف وأفراد»، وهي تتصارع مع بعضها البعض، وفي صراعها يستخدم البعض علاقاته بالسلطة الحاكمة من أجل الحصول على موارد أو امتيازات لا يحصل عليها منافسوه. الكل تقريباً يحاول ممارسة ذلك، البعض ينجح تماماً والبعض الآخر ينجح بدرجة اقل والبعض الثالث يفشل فينزوي في ركن بعيد. بعبارة أخري هناك الكثير من «رجال الأعمال» الجدد متورطون مع النظام ومع السلطة، حتى ولو كانوا يقضون الليل والنهار في الدعاء عليهما !
أولا: تأثيرات الريوع النفطية خلال حقبة النظام الدكتاتوري
تستهدف هذه الفقرة متابعة مسار القوى المسيطرة على السلطة خلال الفترة 1968 - 2003، والتي استمرت لثلاثة عقود ونصف كي يمكن فهم جذورها وطبيعة النظام الذي انشأته مستفيدة من الريوع النفطية لبناء سلطة استبدادية دكتاتورية وقطع الطريق امام اي تطور ديمقراطي. تاريخيا، ولأسباب متنوعة لا مجال للدخول في تفاصيلها «الملتبسة» تهيمن الدولة في العراق على المجتمع المدني. غير أن هذه الهيمنة اتخذت صيغتها الصارخة بسيطرة الائتلاف العسكري/الحزبي الذي جاء الى السلطة في 17/تموز/1968. ولأسباب تاريخية/سياسية معروفة أيضا، انتهت هذه الهيمنة بسيطرة العائلة الحاكمة على كل شيء.
ولفهم هذه «المفارقات» لابد من تتبع التطور التاريخي لعمليات التمايز التي حدثت في تلك السلطة منذ 17 تموز 1968.
لبناء أسس السلطة الجديدة، التي ولدت بعملية ملتبسة ومركبة، ولضمان إعادة إنتاج سيطرته، على مختلف الصعد، لجأ الإئتلاف الطبقي/السياسي الجديد الى الاستيلاء السريع على المفاصل الأساسية لسلطة الدولة وأجهزتها المختلفة، مبتدئا بتأمين السيطرة الاقتصادية وشروطها عبر الهيمنة على الحقول الاساسية لإنتاج الثروة وتحديدا الثروة النفطية، واستخدام هذه العناصر كأداة لـ «توليد» الفئات الجديدة التي ارتكز عليها فيما بعد لبناء «السلطة الجديدة». غير إن السيطرة الاقتصادية لم تكن كافية لإعادة إنتاج السلطة الجديدة في حينها، بل إن ذلك تطلب تعزيز هذه السيطرة بإحكام القبضة على مواقع إعادة إنتاج السيطرة السياسية والإيديولوجية وإحكام الهيمنة على هذه الاجهزة الضرورية لديمومة استمراره.
وأثناء عملية بلورة شروط وعناصر الهيمنة الطبقية بتجلياتها الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية، كانت تجري عملية استقطاب وتركز عالية الحدّة، تمازج بين الإرغام الاقتصادي والعنف المادي واللفضي، والأشكال الاعتيادية لتحقيق هيمنة الائتلاف الجديد، الطامح لتذويب الجميع في « بوتقة واحدة «.
على المستوى السياسي بدأت كل العلائم تشير الى جنوح طاغ لدى «السلطة الجديدة» لضمان سيطرة الحزب الواحد على مقاليد الحياة الاجتماعية بكل ابعادها وفروعها، بدون منازع، وخلق حالة من الوعي المفوت بأهمية وضرورة حزب واحد ووحيد، الى حد الاعلان عن دور قيادي للحزب الحاكم بنص دستوري!. وبموازاة الجنوح نحو أحادية حزبية صارخة كانت تجري عملية أخرى بالغة التعقيد داخل «الائتلاف المسيطر» تسعى لضمان تركز للسلطة وحصر عملية اتخاذ القرار في أيدي جماعة قرابية من منطقة جغرافية واحدة (بل وحتى من قرية واحدة هي قرية العوجة في تكريت).
ويتعين التأكيد على أن هذه السيرورات لم تتم بدفعة واحدة، بل شهدت مراحل عدّة، كما أنها كانت معمدة، كاتجاه عام، بالعنف بشكل أساسي. وبحسب الراحل د. فالح عبد الجبار فقد مرت هذه العملية ، تقريبا، بثلاثة أطوار (1) :
- الطور الأول ويمتد من لحظة سيطرة هذا الائتلاف في عام 1968 وحتى عام 1973، والتي يمكن تسميتها بمرحلة التشارك، وتمتاز بسيطرة الحزب، وبتنازع بين العسكريين والمدنيين انتهى بفرض السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية بهدف قطع الطريق على أية محاولة انقلابية لاحقاً، وخلق جيل جديد من العسكريين في إطار ما سمي ّ بـ «الجيش العقائدي».
وخلال هذه الفترة اتخذت قيادة الحزب الحاكم جملة من الاجراءات التي أصدرها «مجلس قيادة الثورة» لتأمين الهيمنة التامة على البلاد من خلال مركزة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلام والصحافة والفكر بيد المجلس المذكور لضمان اعادة انتاج النظام القائم دون عوائق.
سعى النظام خلال هذه الفترة الى توسيع قاعدته الاجتماعية حيث يلاحظ النمو السريع لقطاع الدولة الرأسمالي وأجهزة الادارة الاقتصادية وبقية أجهزة الدولة المدنية والعسكرية التي جعل من العاملين فيها قوة كبيرة تسند حكمه وإجراءاته. وأدت تلك الاجراءات الى عملية تمايز طبقي يتمثل معلمه الاساس في تحسن اوضاع البرجوازية الصغيرة والفئات الوسطى وتحسن مواقعها الطبقية وتعزيز مصالحها. وبدأ من النصف الثاني من عام 1973 بدأت بالتبلور ملامح تحالف سياسي يستند الى قاعدة اجتماعية بين البرجوازية البيروقراطية التي تعززت مواقعها في الحكم والبرجوازية المحلية الكبيرة والطفيلية. علما ان تأميم النفط في عام 1972 قد أمّن امكانيات كبيرة سمحت للنظام الحاكم حينذاك بتوظيف الريوع النفطية في تعزيز مواقعه، فبدأت تنساب الى جيوب الحاكمين والأجهزة البيروقراطية والشرائح الطفيلية كميات كبيرة من الموارد المالية.
- الطور الثاني ويشمل الفترة 1973-1979 في هذا الطور يلاحظ تبلور مرحلة نمو السيطرة القرابية بلا منازع وخلق مجموعة من التشابكات الجديدة.
خلال هذه الفترة أدى تعاظم الريوع النفطية بنتيجة زيادة اسعار النفط الخام في السوق الدولية وزيادة انتاجه وتصديره، الى عدة نتائج من الناحية الاجتماعية، تمثلت في التالي:
أ. ضعفت حوافز العمل المنتج عند السكان؛
ب. انتشار الطفيلية حيث توسع نطاق المنتفعين غير المنتجين من المقربين للسلطة وعند العاملين في مؤسسات الدولة ومشاريع القطاع الحكومي؛
ج. طغيان النفوذ السياسي للحزب الحاكم في مؤسسات الدولة وفي اوساط المجتمع عموما.
أما على الصعيد الاقتصادي فقد تم اعتماد اسلوب «التنمية الانفجارية» القائم على مبدأ «حرق المراحل» الذي ادى الى تسريع عملية توسع القطاع الحكومي وإقامة القاعدة الاقتصادية – الاجتماعية للسلطة المطلقة التي اراد حزب البعث فرضها على المجتمع.
لقد خلقت الاوضاع الاقتصادية الجديدة مراكز قوى فرعية لفئات وشرائح اقتصادية وسياسية وقوى وسيطة وطفيلية في نشاط الاستثمار في قطاعات المقاولات والصناعة والزراعة وتجارة الاراضي والتي ظلت تتأرجح في حلبة الصراع الدائم لاحتلال مواقع افضل في البنية الهرمية للسلطة. وشهدت هذه الفترة المزيد من التمايزات والاستقطاب الطبقي تمثل في انتقال اوساط من « الشرائح الجديدة « الى مواقع البرجوازية المتوسطة او حتى الى مواقع البرجوازية البيروقراطية والطفيلية وساعدها في ذلك انتماؤها للحزب الحاكم ومسقط رأسها وكذلك الطائفة الدينية التي تنتمي إليها وازدادت مداخيلها، سواء «المشروعة» او غير المشروعة، وتنامت مكاسبها وامتيازاتها. وأفضت هذه الاصطفافات والتمايزات الطبقية الى نشوء تحالفات طبقية وسياسية جديدة. وكان هناك تحالف اساسي فرض نفسه موضوعيا (وإن لم يعلن عنه رسميا) هو التحالف الذي نشأ بين فئة البرجوازية البيروقراطية، التي هيمنت على سلطة الدولة وقطاعها الاقتصادي والقابضة بيدها على سلطة اتخاذ القرارات، والبرجوازية المحلية (فئات المقاولين والعقاريين والزراعيين والتجارة) من طرف آخر، تلك الفئات التي نسجت وشائج قوية مع الاحتكارات الامبريالية ممثلة بالشركات المتعدية الجنسية التي اتسع نشاطها في العراق نتيجة تعاظم الريوع النفطية وما ارتبط بذلك من مشاريع اطلقتها خطة « التنمية الانفجارية».
- الطور الثالث ويشمل الفترة التي تلت سيطرة صدام حسين على السلطة في عام 1979، حيث تم حسم الأمور لصالح أحادية مطلقة، وتسمي هذه المرحلة بمرحلة نمو السيطرة العائلية (أشقاء الرئيس، أبناؤه، أبناء عمومته) كنواة للقيادة الجماعية. في هذه المرحلة، وكما يشير الباحث زهير الجزائري بصواب تصبح قرابة الدم المتراس الامني أمام قرابة العقيدة (2). نحن هنا شهود تضاؤل دور الحزب (المقصود الحزب الحاكم آنذاك) ككيان سياسي محدد حيث يتشضى دوره ويضمحل لصالح توطد مواقع القرابة، التي تصبح قادرة على الصياح بأعلى صوتها – إنها الحزب !!. شهدت هذه الفترة إعادة هيكلة للمناصب الامنية الحساسة بتوزيعها بين أقرباء الدرجة الاولى والثانية، وفي فترة لاحقة جرى تعزيز وترسيخ العلاقات العائلية في السلطة بسلسلة من الزيجات، وبهذا نشأت تحالفات جديدة واتسعت دائرة الماسكين بالسلطة أفقيا ولكن الجميع يضمنون الولاء لرأس واحد ، للأب الرئيس – «عم الجميع»!.
هكذا، إذن، نحن شهود عملية أو مشهد رباعي الابعاد:
هيمنة متعاظمة للحزب (البعث) على الدولة؛
تمركز مفاصل السلطة الاساسية بيد الجماعة القرابية الاوسع؛
تمركز القرار بين النخبة العائلية؛
الهيمنة على كل مفاصل صناعة القرارات السياسية الكبرى وتوزيع الثروة وصناعة الموت وحصرها بيد رئيس كلي القدرة والجبروت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1) قارن: فالح عبد الجبار، «من دولة الحزب الواحد الى دولة الحزب/الاسرة». الثقافة الجديدة، كانون الاول/1995 – كانون الثاني/1996، ص 7 ولاحقاً.
(2) قارن: زهير الجزائري، «الدولة والحزب والقبيلة»، الثقافة الجديدة، العدد 259/حزيران 1994، ص 62.