اخر الاخبار

لقد تم النظر إلى الماركسية الجامدة، أو الماركسية العالمية، كما يطلق على الماركسية اللينينية الأرثوذكسية او النقية، بشكل نقدي لعقود من الزمن. وبناء على ذلك، فإن لصورة لينين انعكاسا سلبيا إلى حد ما على اليسار غير العقائدي، وهناك، في سياق النظرية النقدية، نقص كبير بالاهتمام به. ولهذا من غير المتوقع ألا يطلق حزب اليسار الألماني على مؤسسته البحثية اسم روزا لوكسمبورغ، بل اسم زعيم ثورة أكتوبر. ولكن إذا كان لينين دوغمائيا، فلماذا اهتم مفكر مثل جورج لوكاش، الذي أصبح عمله «التاريخ والوعي الطبقي» مؤثرا على الماركسية الغربية وأيضا النظرية النقدية، طيلة حياته بلينين، باعتباره أهم الماركسيين في القرن العشرين؟

لوكاش وصورة لينين

بالرغم من ذلك، يرسم لوكاش صورة مختلفة تماما عن لينين. قبل 100 عام، وبعد وقت قصير من وفاة لينين، أصدر الفيلسوف المجري عمله الصغير «لينين. دراسة في سياق أفكاره». وفيه يعبر لوكاش بوضوح عن إعجابه واصطفافه الى جانب «صانع» ثورة أكتوبر، وهو ما سبق أن عبر عنه في كتابه «التاريخ والوعي الطبقي». على الرغم من تعاطف لوكاش المبكر مع روزا لوكسمبورغ والتوبيخ القاسي الذي وجهه له ولمقاله عن البرلمانية، الذي رسم، بالمناسبة، الصورة الزائفة للماركسي المتطرف جدا، التي سترافق لوكاش طوال حياته، عد لوكاش لينين عبقريا. إنه أحد «المنظرين المساوين لماركس الذين أنتجهم النضال التحرري البروليتاري حتى الآن».

كان لوكاش قد شهد لينين شخصيا. وأعجب بالطريقة التي قدم بها تحليلا متعمقا لقضية سياسية معقدة بشكل عفوي (استنادا إلى ملاحظة صحفية)، أخذا بالاعتبار السياق العام («الكل») والملموس والواقع للقضايا اليومية. بالنسبة للينين، وفقا للوكاتش، كان واقع الثورة دائما النقطة المرجعية الأساسية. وفي الصراع حول هل الثورة البروليتارية ممكنة في روسيا، أو وجوب اتباع المسار الكلاسيكي للتطور الرأسمالي في البلد المتخلف ايضا، أظهر لينين وجهة نظره غير الميكانيكية وغير الحتمية (ليست رؤية مسبقة) للواقع والتاريخ. لقد أدرك الديالكتيكي لينين - على خطى هيجل وماركس - أنه إذا أخذنا في الاعتبار «واقع العملية الشامل» في نهاية الحرب العالمية الإمبريالية، فيجب على البروليتاريا أن تخوض النضال ضد البرجوازية أو النضال لاستلام السلطة. لأن البرجوازية لم تعد طبقة ثورية. يجب على البروليتاريا أن تتولى مهام الطبقة البرجوازية الثورية سابقا من أجل تحقيق مطالبها الثورية القديمة.

كان لينين هو الذي استوعب الإمكانات الثورية للوضع بطريقة غير مسبوقة. ووفقا للوكاتش، فإن أفكار لينين التنظيمية مصممة لتناسب مثل هذه الأزمة، وتأخذ في الاعتبار أن العمل الجماعي للطبقات يلعب دورا حاسما فيها. لقد رأى لينين بوضوح الصعوبات التي تنشأ من عادات الفكر وأساليب الحياة الصنمية المجردة للبروليتاريين في عصر الرأسمالية الإمبريالية: هذه جعلت من الضروري بناء حزب طليعي «يتقدم دائما بخطوة على الجماهير المناضلة، ومع ذلك، فهو دائما لا يتقدم إلا بخطوة واحدة لكي يكون قادرا دائما على البقاء قائدا لنضالها.» ولا يمكن للحزب أن يلعب هذا الدور إلا إذا سمح لرؤيته النظرية «أن تبلغ ذروتها في التحليل الملموس للظرف الملموس، إذا فالصحة النظرية هي دائما وحدها التي تعبر عن معنى الموضع الملموس».

كان لوكاش يعني حزبا لينينيا يتمتع، من ناحية، «بالوضوح النظري والحزم»، و»من ناحية أخرى، يجب أن يكون مرنا جدا وقادرا على التعلم». «من اجل ان تقرأ الجماهير في كل تصريح، حتى وان كان مشوشا، الإمكانيات الثورية، التي تظل الجماهير غير واعية بها». يجب أن يكون الحزب جدليا بمعنى عبارة ماركس بأن المربي نفسه يجب أن يكون متعلما، ويجب أن يكون، في الوقت نفسه، منتجا ومنتجا (بكسر التاء في الأولى ونصبها في الثانية- المترجم). إن كون الحزب قد أصبح «الشكل المرئي لوعي البروليتاريا الطبقي» يجب إثباته باستمرار في علاقته المتبادلة مع الطبقة.

لينين الديالكتيكي

بالنسبة للوكاتش، أثبت لينين، السياسي الثوري وقارئ هيغل، قدراته كديالكتيكي للملموس في جميع النقاط المذكورة: لقد رأى من خلال ذلك أن النظرة الحتمية (المسبقة) غير الديالكتيكية للتاريخ أدت إلى سياسة الإصلاح التي تبنتها الأممية الثانية. لقد ضحت هذه السياسة بالمصالح العامة للبروليتاريا من أجل المصالح اليومية للمجموعات منفردة؛ لقد كان الأمر يتعلق فقط بـ «تحسين وضع البروليتاريا داخل المجتمع البرجوازي».

كما حلل هيلفردين (نمساوي وأحد منظري الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني – المترجم) وروزا لوكسمبورغ، فقد خلقت الإمبريالية وضعا جديدا عرف لينين كيف يقدم إجابة على نتائجه العملية والسياسية. لقد ايد نضال التحرر الوطني في المستعمرات، وقبل كل شيء كان على جدول الاعمال، ان البديل حرب عالمية أو حرب أهلية. بالنسبة للينين، كان هذا بمثابة بداية المرحلة الثورية للنضال من أجل استلام سلطة الدولة. ووفقا له، خدمت الديمقراطية البرلمانية الشكلية هدف تشويش البروليتاريين والفئات الوسطى لتأمين قيادة للبرجوازية. ومن ناحية أخرى، فإن نظام المجالس في الدولة الاشتراكية المنتصرة يتجاوز العالم البرجوازي، إذا نجح «في التغلب تربويا على بلادة وتشرذم هذه الفئات، وفي تعليمها لتكون نشطة وتشارك بشكل مستقل في حياة الدولة».

إن إحدى أهم وظائف نظام المجالس هي ربط لحظات حياة المجتمع التي تمزقها الرأسمالية، كما كتب لوكاش، صاحب نظرية التشيؤ. إن انتقال لينين من شيوعية الحرب إلى السياسة الاقتصادية الجديدة في الاتحاد السوفييتي يظهر له، قدرة لينين على تنفيذ الممارسة المرنة وغير العقائدية المطلوبة: كانت شيوعية الحرب «إجراء مؤقتا» ضروريًا، أملته الظروف.

وبالنسبة لجورج لوكاش، ما كان يميز «السياسة الواقعية الثورية» للينين هو أنه لم يلتزم بشكل صارم بالمبادئ ولم يتصرف بطريقة غير مبدئية. تنشأ «حقائقه» من التحليل الملموس للظرف الملموس من منظور رؤية جدلية وغير حتمية (غير مسبقة) للتاريخ. وينطبق هذا أيضا على «الشكل التنظيمي الذي وضعه لينين»، والذي «يرتبط ارتباطًا وثيقا بالثورة الوشيكة». وقد حذر لوكاش في وقت مبكر من عام 1924 قائلاً: «إن التعميم» الميكانيكي لأعمال لينين أو قراراته لا يمكن أن يؤدي إلا إلى صورة كاريكاتورية، وإلى لينينية مبتذلة»، وكما نعلم اليوم، فقد ذهب تحذير لوكاش دون استجابة. وأصبحت اللينينية صورة كاريكاتورية ستالينية.

لوكاش يصطف مع لينين

في مناقشة برنامج الحزب الشيوعي المجري، والتي دافع فيها لوكاش عن دكتاتورية ديمقراطية للبروليتاريا باسم حزبي «بلوم»، وبعد الهجرة إلى موسكو، ظل التزام لوكاش تجاه لينين قائما. ولم يكن بأي حال من الأحوال تكيفا تكتيكيا مثل اعترافه القسري بـ «أهمية «المادية والنقد التجريبي» في بلشفية الأحزاب الشيوعية». وقد جاء هذا في محاضرة ألقاها على مضض، في اجتماع للمعهد الفلسفي في موسكو عام 1934.

بالنسبة للوكاتش، ظل لينين يستحق الاحترام غير المشروط باعتباره منظّرا للممارسة، وقد عكس ذلك في نصه «منبر الشعب أم البيروقراطي؟»، الذي كتبه في ثلاثينيات القرن العشرين، والذي قدم فيه رؤيته بشأن لينين، باعتباره استمرارا لتقليد اليعاقبة ضد نموذج السياسيين البيروقراطيين. وقد أشار إلى كتابات لينين الفلسفية مرة أخرى في مناقشته للوجودية بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن عكس حسيا الكتابات الفلسفية الأساسية في ارث لينين في كتابه «هيغل الشاب». وفي عمله الأخير يوصل رؤيته للينين باعتباره الرابط الوحيد بين النظرية والممارسة. في كل من «أنطولوجيا الوجود الاجتماعي» وفي عمله «الاشتراكية والديمقراطية»، يعد لينين على أنه النقيض النظري والعملي والسياسي لسلطوية ستالين، و»الاشتراكية» التي تنفي استقلال النقابات العمالية وكل تقاليد المجالس والديمقراطية في الحياة اليومية. ويتلاءم مع هذه الصورة أن لوكاش، الذي كان معتقلا في رومانيا، كتب رسالة إلى أغنيس هيلر (فيلسوفة وعالمة اجتماع مجرية – المترجم) في عام 1957، يوصي فيها بإجراء دراسة مكثفة عن لينين وأخلاقياته الثورية.

في عام 1967، كتب لوكاش خاتمة جديدة لكتيبه «لينين»، كما كان يفعل دائما عند إعادة نشر كتاباته المبكرة. لقد أكد بعده القاطع، وأشار الى ان صورة لينين ليست ابدية، ومرتبطة بظروفها، فضلاً عن تفاؤله المبالغ فيه بشأن الثورة. لكنه احتفظ بالمحتوى الأساسي لنص 1924. بالنسبة له، ظل لينين منظر الممارسة القادر على التعرف على الإمكانات الثورية والعملية والسياسية لكل موقف تاريخي. بعيون لوكاش، لينين نموذج للمثقف الثوري: معطاء ثالث، مقارنة بدانتون وروبسبير؛ منبر متواضع للشعب، يكره كل البيروقراطية؛ المتعلم مدى الحياة الذي لا يدعي بأي حال من الأحوال أنه كلي المعرفة وخالٍ من الأخطاء؛ نقيض لستالين، لأنه يرفض صنمية أي شكل تنظيمي ويعترف بوضوح بالطبيعة غير المثالية للثورة الروسية. بالنسبة للوكاتش، فإن لينين «حقق أكثر من ماركس نفسه أطروحة فيورباخ الأخيرة».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*روديغر دانهمان هو رئيس جمعية جورج لوكاش العالمية.

صحيفة «نويز دويجلاند» الألمانية - 26 حزيران 2024 (مقتطفات ضافية)

عرض مقالات: