اخر الاخبار

التشكيلة الاجتماعية - الاقتصادية

(socio-economic formation) -  أسلوب الإنتاج متحدا مع البناء الفوقي يكونان ما يسمى بالتشكيلة الإجتماعية – الإقتصادية. فما هو المقصود بالتشكيلة الاجتماعية – الاقتصادية؟

يلعب مفهوم التشكيلة formation دوراً بالغ الاهمية في العلم. فـ “التشكيلة” اذن هي ذلك التعميم الذي يضمن في ذاته منهجية محددة في تحليل الظواهر الاجتماعية. ان تحليل الظواهر والعلاقات الاجتماعية المادية وفر امكانية ملاحظة التكرارية والصحة وتعميم اوضاع مختلف البلدان في مفهوم اساسي واحد  هو التشكيلة الاجتماعية. ان هذا التعميم وحده هو الذي مكّن من الانتقال من وصف الظواهر الاجتماعية الى التحليل العلمي الصارم لهذه الظواهر.

بهذا المعنى فان التشكيلة هي مفهوم اكثر اتساعا من اسلوب الانتاج. إنها تعكس مستوى تطور قوى الانتاج، والبنية الفوقية، السياسية، والحقيقية والايديولوجية. غير أن الخاصية الرئيسية لمفهوم التشكيلة تكمن في أنها لا تعكس إلا الظواهر الهامة، الجوهرية، أي، فقط تلك الخصائص المبدئية للاوضاع الاجتماعية التي تتكرر في الغالب في صورة واحدة في مختلف البلدان والتي يمكن تعميمها.

في اطار مفهوم التشكيلة ينظر الى السياسة، والدولة، والحقوق، والايديولوجيا، والفن، وغيرها بمنظار محدد، وبالضبط – من وجهة نظر كيفية نشوء هذه الظواهر الفوقية عن الأساس، ونوعية الخصائص الجذرية للدولة، والحقوق، والسياسة، وغيرها التي يحددها الاساس

ما هي العلاقة بين “اسلوب الانتاج “ ومفهوم “التشكيلة”؟

يشير بعض الباحثين الى ان ما يجمع بين مقولة اسلوب الانتاج ومقولة التشكيلة الاقتصادية –الاجتماعية هو أن المقولتين تؤكدان على ان البشرية تتطور على مراحل، وان تاريخ البشرية هو تاريخ تعاقب اساليب انتاج الخيرات المادية، كما انه تاريخ التعاقب الدوري للتشكيلات الاقتصادية الاجتماعية.

ولفهم جوهر هذه العلاقة من الضروري التمييز بين المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي. بلغة المنطق الشكلي، يعتبر هذان المفهومان متفقين، وتقوم بينها علاقة تبعية، فأحدهما – اسلوب الإنتاج- اضيق من الآخر – التشكيلة- ويظهر كجزء منه. أما على مستوى المنطق الديالكتيكي فانه يجب الادراك بأن طابع اسلوب الإنتاج يحدد طابع التشكيلة بكاملها باعتبار أن علاقات الانتاج هي العامل المحدِد والحاسم في مفهوم التشكيلة. وفي ضوء ذلك إذا كان أسلوب الانتاج عبوديا عندها ستكون التشكيلة باكملها عبودية، وإذا كان رأسماليا فستكون التشكيلة رأسمالية، وهكذا.

في اطار هذا المفهوم (التشكيلة) ندرس البناء الفوقي من وجهة نظر خصائصه الجذرية الجوهرية التي تحددها القاعدة ، أي، أسلوب الانتاج في نهاية المطاف. فإذا كان أسلوب الانتاج المسيطر عبوديا فإن ملاك العبيد يكونون الطبقة المسيطرة بدون منازع على الحياة السياسية، وتكون الدولة دولة اسياد العبيد ولا شيء غير ذلك، وتكون الايديولوجيا السائدة ايديولوجيا سادة العبيد، وهكذا الأمر بالنسبة للتشكيلات الأخرى.

واذا كان التمييز بين المفهومين (اسلوب الإنتاج والتشكيلة) اعتمادا على درجة العمومية والتجريد باعتبارهما “مفهومين خالصين”، فان الاختلاف بينهما يكمن في شيء آخر.  فالمفهوم المجرد “اسلوب الإنتاج” يعكس الملامح الجذرية للاقتصاد، في حين ان المفهوم المجرد الآخر “التشكيلة الاجتماعية” يعكس الملامح الجذرية للاقتصاد اضافة الى الملامح الجذرية للبناء الفوقي النابعة من الاقتصاد.

إن الانتقال من تشكيلة الى أخرى ليس تطورا لتشكيلة الى تشكيلة مختلفة، وانما عملية تناقضية يتم بموجبها انهيار البنى القديمة وإقامة البنى الجديدة. والشيء الرئيسي في هذه العملية ليس العلاقة المنظومية – البنيوية التعاقب، وانما، على العكس، هو تحطيم وانهيار هذه العلاقة. وثمة ملاحظة هامة لماركس يشير فيها الى وجود “قانون عام” للانتقال من تشكيلة لأخرى، والمقصود هنا قانون توافق علاقات الانتاج مع طابع قوى المنتجة حيث كتب قائلا: “ تدخل قوى الانتاج المادية، عند درجة من تطورها، في تناقض مع علاقات الانتاج السائدة، أو مع ما يعتبر فقط التعبير الحقوقي عنها وهو علاقات الملكية، التي تطورت في داخلها قوى الإنتاج. إن هذه العلاقات تتحول من شكل لتطور  قوى الانتاج الى عائق لهذا التطور.

عند ذلك يحين موعد الثورة الاجتماعية. ومع تغير الاساس الاقتصادي يحدث بهذه السرعة أو تلك الانقلاب في البنية الفوقية الضخمة كلها.. لا تموت تشكيلة اجتماعية واحدة قبل ان يبلغ تطور جميع قواها الإنتاجية المستوى الذي تتيحه لها هذه التشكيلة، ولا تظهر علاقات الإنتاج الجديدة الأعلى أبدا قبل ان تنضج الشروط المادية لوجودها في باطن المجتمع القديم نفسه”.

ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه وهو: هل يكون الانتقال من تشكيلة الى أخرى مجرد لعبة من لعب المصادفات؟ ام ان مثل هذا الانتقال يعتبر تطورا قانونيا، ضروريا موضوعيا؟

في مسعى الاجابة على هذا السؤال تتنوع مقاربات الباحثين.

فمثلا يرى الراحل المؤرخ الماركسي المعروف (هوبسباوم) أن النظرية العامة للمادية التاريخية تسلّم فقط بوجوب تتابع اساليب الإنتاج، ولكن ليس في ترتيب محدد مسبقا وثابت. ويضرب مثلا حول أن انحلال النظام المشاعي يفتح طرقا مختلفة للتطور: أما الانتقال الى المجتمع العبودي، وأما الى الاقطاعية وأما الى أسلوب الإنتاج الآسيوي (الشرقي).

في حين يرى آخرون ومنهم كاتشانفسكي إن التتابع المحتمل للتشكيلات الخمس المعروفة (مشاعية، عبودية، اقطاع، رأسمالية، شيوعية) يعتبر ضروريا وقانونيا بشكل صارم لجميع المجتمعات. ففي أساسه يكمن النمو المضطرد لإنتاجية العمل، والذي على أساسه تحل التشكيلات الأعلى محل التشكيلات الأدنى. وبما ان تطور المجتمع يتعرض لتأثير كثير من العوامل، فإن تتابع التشكيلات في جميع المجتمعات تقريبا قد يصف بالانحرافات. ولكن الخط العام للتطور والانحرافات لا يعتبران طرفين لا يلتقيان اطلاقا..على العكس انهما جانبان متضادان لوحدة ديالكتيكية، يتحول أحدهما بصورة مستمرة الى الآخر.

وأخيرا لا بد من بضعة سطور حول اشكالية مهمة وهي معايير تقدمية التشكيلات الاجتماعية – الاقتصادية حيث تحتل مسالة هذه المعايير أهمية استثنائية، رغم ان بعض الباحثين يشير الى أن هذه المسالة لم تدرس جيدا وبشكل كامل.

ثمة ثلاثة معايير على الاقل في هذا المجال:

معيار مستوى تطور الانتاج الذي يعتبر المعيار الأكثر اهمية لتقدمية التشكيلات ولكنه طبعا ليس المعيار الوحيد.

اضافة الى ذلك هناك معياران آخران، اذا كان المقصود التشكيلات الطبقية النقضية:

معيار درجة انعتاق الشغيل، ويربط انعتاق العاملين بتحسن ادوات الانتاج، وبتعقد تكنولوجيا الإنتاج وارتفاع إنتاجية العمل، أي أن الانعتاق هذا يجري بقوة الضرورة الموضوعية.

دور الصراع الطبقي في الاقتصاد.

ولكي نعطي وصفا صحيحا للتشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، باعتبارها وحدة لا تتجزأ، لا بد من استخدام مقولتي “علاقات الانتاج” و “القاعدة الاقتصادية”. اما مزدوجات المقولات مثل “قوى الانتاج وعلاقات الانتاج” من جهة و “القاعدة والبناء الفوقي” من جهة أخرى فتبين الارتباط المتبادل بين علاقتين. ان هذه العلاقات تتيح لنا ابراز آلية تأثير أسلوب الانتاج على جوانب الحياة الاجتماعية كافة.

يتيح مفهوم التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية ما يلي:

دراسة هذا الكل الاجتماعي ابتداء من عملية الإنتاج، اشكال الملكية والسيطرة على مختلف وسائل الانتاج (بما فيها الارض)، الشكل التنظيمي لعملية العمل، الهدف المباشر من النشاط الانتاجي، الكيفية التي يتم بها العمل، فنونه وادواته، مصير ناتج العمل، استخداماته في داخل الوحدة الانتاجية وخارجها، في السوق المحلية أو السوق العالمية.

من هنا يتم التعرض للتركيب الاجتماعي، هيكل الطبقات الاجتماعية، بابراز القوى الاجتماعية المختلفة ابتداء من مكانها في عملية العمل الاجتماعي وامكانية (أو احتمال) ان تصبح قوى سياسية.

ثم الاهتمام بعد ذلك بالنشاطات غير الاقتصادية (سياسية وفكرية ....). وفي اطار النشاطات الاجتماعية غير الاقتصادية تتم دراسة النشاط الفكري وما ينتج عنه من افكار. كما تتم دراسة أفكار وقيم ومواقف القوى الاجتماعية، الطبقات الاجتماعية، مع البحث على الأخص عن أفكار وقيم ومواقف القوة الاجتماعية المسيطرة إبتداء من مكانها في عملية الإنتاج. على ان يتم البحث عن آثار كل النشاطات الاجتماعية والأفكار على القوى الاجتماعية في علاقاتها في داخل عملية الانتاج.

واضافة لذلك ومن خلال الملاحظات الواردة اعلاه، يمكن القول أن استخدام مفهوم التشكيلة الاجتماعية/الاقتصادية يتيح ايضا ما يلي:

أولا: تمييز فترة من التأريخ عن أخرى، وبدلا من الحديث عن مجتمع بشكل عام جعل بالامكان دراسة الاحداث التاريخية داخل حدود أنظمة محددة.

ثانيا: يجعل في الإمكان تجميع النظم في بلدان مختلفة على مستوى واحد من الإنتاج (مثلا فرنسا، المانيا، السويد، الولايات المتحدة، وكلها رأسمالية)، وكشف عن السمات المشتركة لهذه البلدان.

ثالثا: بالإمكان بحث المجتمع الانساني في كل فترة من فترات تطوره “كمركب عضوي واحد”، يضم كل الظواهر الاجتماعية في وحدتها وتفاعلها العضويين، على أساس اسلوب الإنتاج. وتشكل القوى المنتجة الأساس المادي والتقني للمجتمع. وتشكل علاقات الإنتاج أساسها الاقتصادي، كما تشكل الأفكار التي تنشأ على هذا الاساس والعلاقات الايديولوجية والمؤسسات المختلفة البناء الفوقي للمجتمع. واخيرا تشكل اللغة والأسرة والجماعات التاريخية للناس (القبيلة، القومية، الامة ..... الخ) ظواهر اجتماعية نوعية لا ترتبط بالقاعدة الاقتصادية ولا بالبناء القوقي، إنما هي ظواهر ذات أهمية جوهرية لفهم تطور تشكيلة اقتصادية/اجتماعية معينة.

رابعا: لكل تشكيلة قوانين ظهورها وتطورها الخاصة بها. وفي نفس الوقت، فان القوانين العامة التي تعمل في كل التشكيلات ترتبط معا في عملية واحدة هي عملية تاريخ العالم.

عرض مقالات: