اخر الاخبار

في الربع الأخير من القرن العشرين، لم يكن الأمن المشترك مجرد شعار موجْه، بل كان عقيدة ذات مبادئ متطورة وتأثير عملي. إنها تتمتع بإمكانات استراتيجية القرن. ولكن في حركة السلام الحالية لا يوجد بالتأكيد سوى القليل جدًا من الإشارة الموحدة لهذه العقيدة. إن التفكير فيها وتكييفها مع الظروف المتغيرة يمثل حزمة مفاهيم موازية لعقيدة الردع وحل المشكلات العسكرية.

أولا: كان مفهوم الأمن المشترك بمثابة استراتيجية مناقضة لعقيدة الردع، بما في ذلك أولوية الدبلوماسية والتفاوض على المواجهة. يا لها من راهنية! إن نهاية الحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط لن تتأتى من خلال الردع فقط، باستخدام أسلحة أكثر فتكا، وفي نهاية المطاف عبر انتصارات عسكرية على روسيا وأعداء إسرائيل، هذا هو رأي الأغلبية بين نخب السلطة في الغرب.

وحتى لو بدا أن العدوان الروسي المستمر يدعم هذا الافتراض، فإن هناك نتيجة أساسية تتحدث ضد مبدأ الردع والحلول العسكرية: وهو أن السلطة النووية الروسية لا يمكن هزيمتها. إن التشبث بانتصار عسكري غربي ضد هذه الرؤية يهدد بحرب نووية. ولهذا السبب بمفرده فإن التحول من سياسة التسلح و"الكفاءة الحربية" إلى الأولوية السياسية للدبلوماسية والمفاوضات أمر لا مفر منه. ويدعم ذلك أيضًا حقيقة أن ثلاثة أرباع جميع الحروب في العقود الأخيرة انتهت باتفاقيات السلام نتجت عن المفاوضات. منذ الحرب العالمية الثانية، تم إنهاء قرابة 20 حربًا بين دولتين أو أكثر من خلال المفاوضات. يؤكد يان فان آكين (الرئيس المشارك لحزب اليسار الألماني – المترجم)، من جديد المبدأ الأساسي للأمن المشترك: المفاوضات أولا! لقد جعل قرار مؤتمر حزب اليسار الالماني في مدينة هاله (18 -20 تشرين الأول 2024) هذا الأمر بمثابة نقطة مرجعية مشتركة للآراء المختلفة.

ثانياً: حقيقة أن نهاية الدكتاتورية النازية قد تحققت بمساعدة شحنات الأسلحة من الولايات المتحدة إلى الاتحاد السوفييتي ومن خلال استخدام قوات الحلفاء ضد ألمانيا، ألا يتحدث ذلك لصالح القوة العسكرية؟ تم طرح هذا السؤال أيضًا على اليسار، على سبيل المثال بواسطة باول شيفر (نائب سابق في كتلة حزب اليسار مختص بشؤون الدفاع) وغيري ووب (أحد المختصين بشؤون الدفاع في حزب اليسار-المترجم). لكن هناك اختلافات جدية في الحرب ضد جيوش هتلر.

من ناحية: هدد النظام النازي الحضارة الإنسانية برمتها، وكان ملتزماً بالإبادة الجماعية لليهود في جميع أنحاء العالم. ان جرائم الحرب الروسية تستحق الإدانة، لكن لا مجال للمقارنة بين الحدثين. ومن ناحية أخرى، وعلى النقيض من النظام النازي، لا ترفض القيادة الروسية بالأساس التفاوض وصنع السلام. يتعين على حركة السلام أن تلتزم بمبدأ أساسي آخر من مبادئ الأمن المشترك الذي يدعو إليه إيغون بار، وفيلي براندت، وأولوف بالمه وآخرون من أنصار عقيدة الأمن المشترك الذين أكدوا: أن خصوم اليوم سيصبحون شركاء الغد.

بوتين أو أمثاله كشركاء المستقبل؟ حربه الوحشية تتحدث بالضد من ذلك. ولكنه أبدى في فترة ولايته الأولى انفتاحا على نظام أمني أوروبي جماعي، بشرط احترام المصالح الأمنية الروسية. قبل أن يتوسع الناتو شرقًا في انتهاك لالتزامه الشفهي، وفي آذار 2022 في إسطنبول، بعد بدء الحرب الأوكرانية، كانت القيادة الروسية مستعدة للتفاوض. إن الاقتصاد الروسي بحاجة ماسة إلى التحديث ويتطلب التعاون الدولي لتحقيق ذلك. تحافظ أجزاء مهمة من النخبة الحاكمة الروسية على نمط حياة غربي، وتهتم شخصياً بإنهاء العقوبات الغربية ضد روسيا. كما إن مصالح الصين في التعاون الدولي يمكن أن تؤدي بشكل فعال إلى زيادة الضغط على روسيا لإجراء المفاوضات. تضغط دول البريكس الأخرى مثل البرازيل وجنوب أفريقيا من أجل اعتماد المفاوضات.

ومع ذلك، فإن سلسلة لا نهاية لها من التدخلات العسكرية وعمليات جهاز المخابرات التي تقوم بها الولايات المتحدة للإطاحة بالحكومات الأجنبية، وخاصة في الجنوب العالمي، وأخيرا وعلى سبيل المثال، قرار نشر صواريخ أمريكية طويلة المدى على الأراضي الألمانية تشير إلى أن   قدرة الغرب على تحقيق السلام والشراكة تأتي بعد تغييرات هائلة في ميزان القوى لصالحه. ولذلك فإن المطالبة بسياسة الأمن المشترك يجب أن توجه بالتساوي على الأقل لجميع المعنيين.

ثالثاً: إن التضامن مع الشعب الأوكراني الذي تعرض للهجوم هو ضرورة إنسانية، وأن تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا له ما يبرره أليس هذا صحيحاً؟ ليس من الخيانة لسياسات السلام اليسارية أن نأخذ هذا بعين الاعتبار. لكن ما كان واضحاً منذ البداية قد أصبح الآن في الواجهة. هذه الحرب هي قبل كل شيء حرب إمبريالية بين القوى الرأسمالية. بين روسيا، التي ترى أن أمنها مهدد، وتريد توسيع دائرة نفوذها وتجنب تراجعها كقوة عظمى عسكريا، والولايات المتحدة وحلفائها، الذين يسعون عسكريا، لمنع فقدان الولايات المتحدة لتفوقها العالمي وفي الوقت نفسه لحماية أنفسهم، ومن خلال إضعاف روسيا يعززون سياسة المواجهة مع الصين.

ان هذا يحدد طبيعة حرب أوكرانيا، وليس الاستقطاب بين دول ديمقراطية وأخرى استبدادية. يجب ألا يطول، بواسطة شحنات الأسلحة، أمد هذه الحرب الإمبريالية.  والبديل المزعوم ليس زوال الحرية وأوكرانيا، بل بالمفاوضات ضمان سيادتها وإعادة إعمارها وحيادها.

 ولكن ماذا لو كان الأمر يتعلق بالدفاع عن الحرية؟! هذا السؤال يجب أن يؤخذ من قبل اليسار على محمل الجد. يرى أمارتيا سين، الهندي الحائز على جائزة نوبل، أن هناك "حرية مركزية أساسية للغاية: القدرة على البقاء حيا، وعدم الموت قبل الأوان". وعلى أساس هذا الفهم للحرية، فإن شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا، عندما تعني موت مئات الآلاف نتيجة لإطالة أمد الحرب، تتحول إلى نقيض الحرية. بدون السلام كل شيء يصبح لا شيء، بما في ذلك الحرية.

رابعاً: من غير الواقعي والسذاجة الاعتماد على الدبلوماسية والمفاوضات في عالم مسلح ومسعور بالحرب، أليس هذا على الأقل صحيحاً؟ وعلى اليسار أن يأخذ هذا السؤال على محمل الجد ايضا. إن المطالبة البسيطة "ألقوا أسلحتكم!" هي رؤية، ولكن يجب ملؤها بمحتوى واقعي. مفهوم الأمن المشترك ينص على إقامة جسر بين التسلح وسياسة السلام.

والمصطلح المستخدم هو "هيكلية عدم القدرة على الاعتداء". إذا كان من غير الممكن تحقيق عالم خال من الأسلحة في المستقبل المنظور، فلماذا لا يتم على الأقل إنشاء هياكل عسكرية تستمر في ضمان الأمن ضد أي هجمات، وتكون كافية للدفاع ولكنها غير مناسبة للهجوم! ستكون القدرة الدفاعية لكلا الجانبين المتعارضين أكبر من القدرة الهجومية للخصم المعني. ومع ذلك، فإن مثل هذه القدرة الهيكلية على عدم الاعتداء لا تتطلب فقط هيمنة أنظمة الأسلحة الدفاعية على الأسلحة الهجومية، ولكن أيضًا، نظرًا للحدود المرنة بين الاثنين، يجب أيضًا أن تكون جزءًا لا يتجزأ من عقائد الأمن الدفاعي. وستكون تدابير بناء الثقة والعودة إلى الحد من الأسلحة والتوصل إلى الاتفاقيات الأولى لنزع السلاح خطوات عملية نحو تحقيق ذلك.

على الأقل ستكون مبادرة تستحق المناقشة من اليسار لإعطاء وزن متزايد في الإنفاق العسكري في المانيا الاتحادية لهياكل المعدات التي تضمن القدرة الدفاعية ولكنها تميل إلى جعلها غير قادرة هيكلياً على الهجوم. ومع ذلك، فإن قائمة مشاريع التسليح الألمانية بعيدة كل البعد عن هذه الفكرة. بالمقابل وعلى سبيل المثال، فإن ألبريشت فون مولر، وهو مستشار حكومي دائم ومدير مؤسس للمركز الأوروبي للأمن الدولي، يتمسك بشدة، بما ورد في كتاب عن حرب أوكرانيا حرره جوليان نيدا روملين: يشكل العجز البنيوي عن الهجوم مبدأ أساسيا للأمن المشترك.

 إن تطوير قدرة هيكلية غير هجومية، يشمل أيضا استبعاد نشر أسلحة نووية منخفضة القدرة. في تقرير السلام لعام 2022، اقترحت معاهد أبحاث السلام الألمانية الأربعة الكبرى أن تنسحب المانيا الاتحادية من المشاركة النووية. ويجب على الحكومة أن ترفض استخدام الطائرات الألمانية كحاملات للقنابل النووية الأمريكية وأن تلتزم بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بحظر الأسلحة النووية.

خامساً: أليس من المقبول أن يكون التراجع الروسي عن ضم الأراضي أساسياً لإنهاء الحرب في أوكرانيا، فلا يجوز مكافأة المعتدي أيضاً؟ وبطبيعة الحال، فإن هذا الموقف يتوافق مع شعور صحي بالعدالة. لكن إينيس شفيردتنر (الرئيسة المشاركة المنتخبة حديثا لحزب اليسار الألماني)، تتبنى مثل آخرين "وجهة نظر من الأسفل" بأن السلام يستحق أيضًا التنازلات المؤلمة إذا دعمها المجتمع الأوكراني، وإذا كان بإمكانهم المساعدة في إقناع روسيا بالموافقة على وقف إطلاق النار ومفاوضات السلام، وإذا كانوا سينقذون حياة عدد لا يحصى من الناس وحماية أوكرانيا من المزيد من الدمار. بدون التنازلات، لن يكون هناك أي فرصة للسلام في الشرق الأوسط، على الرغم من أعمق الأذى والكراهية من جانب جميع الأطراف. إن الاستعداد للتسوية هو أيضًا أحد عناصر سياسة الأمن المشترك.

سادسا: لا شك أن كافة الشعوب والدول مهددة بشكل مشترك بالحرب النووية، ومهددة وجوديا بأزمة البيئة والمناخ والتنوع البيولوجي، واحتمال هجرة أعداد كبيرة من السكان هربا من الكوارث والأوبئة المحتملة. إن الوضع الأساسي للحضارة الإنسانية يقف على حافة الهاوية. والرد على هذا التهديد المشترك يتطلب بشكل قاطع الأمن الشامل المشترك، أي العمل التعاوني المشترك. لكن حركة السلام وحتى اليسار التعددي لا يدركون سوى القليل جداً من مبدأ الأمن المشترك كأساس مفاهيمي لجهودهم الفردية من أجل السلام. إن حركة السلام لديها كل الأسباب لإعادة مفهوم الأمن المشترك إلى الساحة السياسية ضد عقيدة الردع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* البروفيسور ديتر كلاين، مواليد 1931، اقتصادي وأستاذ علوم سياسية، ومن العاملين في مؤسسة روزا لوكسمبورغ.  والترجمة هي لنصه المنشور في جريدة "نويز دويجلاند" في 11 تشرين الثاني 2024.

عرض مقالات: