اخر الاخبار

في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها العالم جراء التطور التكنولوجي الهائل، تتزايد متطلبات سوق العمل بشكل مضطرد، وتفرض العديد من شركات القطاع الخاص شروطا صارمة لقبول موظفين جدد، في مقدمتها القدرة على استخدام برامج إلكترونية معينة، وتوفر خبرة في هذا الحقل لا تقل عن ثلاث سنوات. وفي المقابل يزداد عدد الشباب العاطلين عن العمل ممن يحملون شهادات جامعية، حيث يشكل افتقادهم لهذه المهارات عائقاً أمام حصولهم على وظائف. ومما يزيد المشكلة تعقيداً عدم مواكبة الكثير من المناهج الدراسية لمتطلبات التطور، وغياب برامج التأهيل والتدريب الحكومية لما بعد التخرج.

التحول التكنولوجي

وعلى الرغم من تأخر العراق، مقارنة مع دول أخرى، في تبني التكنولوجيا بشكل واسع، فإن السنوات الأخيرة شهدت خطوات ملموسة نحو الرقمنة واستخدام التقنيات الحديثة، حيث بدأت بعض المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة بتطبيق أنظمة الأتمتة لتحسين الخدمات وتقليل التكاليف. كما شهدت الساحة ظهور مبادرات لدعم الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا، ما يعكس توجها متزايدا نحو التكيف مع التحولات العالمية. ومع ذلك، يبقى انتشار التكنولوجيا في البلاد محدوداً بالمقارنة مع ما يحتاجه سوق العمل فعلياً. وقد أدى هذا التفاوت بين التقدم التكنولوجي والاحتياجات الواقعية، إلى ظهور مفارقات بين فوائد التكنولوجيا من جهة، والتحديات التي تفرضها من جهة أخرى.

الأثر الايجابي للتكنولوجيا

لقد ساهمت التكنولوجيا في تعزيز كفاءة العمليات في العديد من القطاعات الحيوية، وعلى رأسها قطاع النفط والغاز الذي يعد الشريان الرئيسي للاقتصاد العراقي. وأتاحت الأنظمة الآلية والذكاء الاصطناعي إمكانية تحليل البيانات وتشغيل العمليات المعقدة بدقة عالية، ما أسهم في تقليل الأخطاء البشرية وزيادة الإنتاجية. كما ظهرت، بالإضافة إلى ذلك، قطاعات جديدة مثل تطوير البرمجيات، إدارة الشبكات، وتصميم التطبيقات، وراحت هذه المجالات توفر فرصًا واعدة للشباب المؤهلين تقنياً لإدارتها.

البطالة التقنية

ورغم فوائد التكنولوجيا، إلا أنها تُعتبر سلاحا ذا حدين، إذ إن غياب التخطيط الحكومي لتطوير المهارات الوطنية أدى إلى بروز تحديات كبيرة. فقد أدى ارتفاع تكاليف برامج التأهيل التي يقدمها القطاع الخاص، على سبيل المثال، إلى جعلها بعيدة المنال للكثيرين، مما ترك شريحة واسعة من العاملين غير مؤهلين لمواجهة التحولات الرقمية. ومع اعتماد الأتمتة والأنظمة الرقمية، تقلصت الحاجة إلى العمالة اليدوية في بعض القطاعات، مثل الزراعة والصناعة. كما ساهمت التكنولوجيا في اندثار مهن تقليدية كانت تشكل مصدر رزق للعديد من العائلات، مثل سوق الصفافير وسط بغداد الذي كان يزخر بالنشاط التجاري في الماضي. هذا التحول أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الفئات التي تعتمد على المهارات اليدوية، مما عمّق التحديات الاجتماعية والاقتصادية.

لقد بات معروفاً بأن العراق يعاني من فجوة مهارية كبيرة بين القوى العاملة، لأن معظم العاملين يفتقرون إلى المهارات التقنية اللازمة للتكيف مع متطلبات العصر، بسبب ضعف التعليم الفني والتدريب المهني، بالإضافة إلى غياب السياسات الحكومية الفعالة التي تهدف إلى تطوير الكفاءات التكنولوجية.

تفاوت الفرص بين المدن والأرياف

ولا تقتصر المشكلة على المهارات فقط، بل إن ضعف البنية التحتية للتكنولوجيا، خصوصا في المناطق الريفية، يعوق إمكانية الاستفادة الكاملة من التطورات التكنولوجية. هذا النقص يحد من قدرة العاملين على اكتساب مهارات جديدة أو المشاركة في الاقتصاد الرقمي.

كما ويتركز تأثير التكنولوجيا الإيجابي في المدن الكبرى مثل بغداد وأربيل، حيث تتوفر فرص أكبر للوصول إلى التعليم التقني والبنية التحتية المناسبة. في المقابل، تعاني المناطق الريفية من نقص حاد في هذه الموارد، مما يعمّق الفجوة بين الأيدي العاملة في المدن وفي الأرياف. وقد دفع هذا التفاوت العديد من الشباب إلى الهجرة الداخلية بحثا عن فرص أفضل في المدن.

الحلول الممكنة

ورغم أن قطاع النفط والغاز كان الأكثر تبنيًا للتكنولوجيا بهدف تحسين عمليات الإنتاج والاستكشاف، مما أدى إلى تقليص حاجته للعمالة التقليدية فيه، فإن تبني التقنيات الحديثة لتطوير الإنتاج في قطاع الزراعة يعّد الأكثر ملائمة. الاّ أن استخدامها لا يزال محدودا للأسف في البلاد بسبب التكاليف المرتفعة ونقص الوعي بأهميتها، وهو ما يخلق صعوبات للمزارعين في التكيف مع متطلبات السوق الحديثة ويضعف قدرتهم التنافسية.

وللحد من التأثير السلبي للتكنولوجيا على سوق العمل، يجب تبني استراتيجيات شاملة في مقدمتها وضع سياسات تحمي حقوق العاملين المتضررين من الأتمتة، وتقديم برامج تعويضية أو دعمهم للانتقال إلى وظائف تقنية، ويتوجب على الحكومة والمؤسسات التعليمية العمل على تطوير برامج تدريبية تستهدف تطوير المهارات التقنية للعاملين، فضلا عن توفير خدمات الإنترنت وتقنيات متقدمة ومدعومة في المناطق الريفية يمكن أن تسهم في تقليل الفجوة بين المدن والأرياف، ومنح الجميع فرصاً متساوية للمشاركة في الاقتصاد الرقمي.

ختاما، تشكل التكنولوجيا تحدي وفرصة في آن واحد. فرغم ما تسببه من ضغوط على الأيدي العاملة التقليدية، فإنها تفتح آفاقا جديدة للتطور الاقتصادي والاجتماعي. ولتحقيق توازن مستدام، فيجب الاستثمار في التعليم والتدريب، وتطوير البنية التحتية، وتشجيع الابتكار. كما يجب أن تساهم النقابات في برامج ادخال الأتمتة والتقيد بضوابط تجنبنا البطالة من جهة وتشجعنا على التحول الرقمي من جهة مكملة. وبهذه الطريقة، يمكن للعراق أن يواكب التغيرات العالمية ويضمن مستقبلا أكثر إشراقا لجميع فئاته العاملة.

عرض مقالات: