اخر الاخبار

شكّلت ثورة 14 تموز 1958 واحدة من أهم اللحظات التاريخية في العراق، إذ لم تقتصر آثارها على إسقاط النظام المتخلف وإعلان الجمهورية، بل امتدت إلى إحداث تغييرات جذرية في بنية المجتمع، كان من أبرزها تمكين المرأة وإخراجها من الهامش إلى قلب الحياة العامة، مذ تبنت القيادة الجديدة بقيادة عبد الكريم قاسم مشروعا اجتماعيا تقدميا يهدف إلى تحرير المواطن، رجلا كان أم امرأة، من القيود المفروضة عليه بفعل التقاليد، والجهل، والفقر، والاستغلال.

قيود اجتماعية وتشريعية صارمة

قبل الثورة، كانت المرأة تعاني من التهميش في مختلف مجالات الحياة، حيث كانت نسبة الأمية بين النساء مرتفعة، والتعليم محصورا في المدن، وغائبا تماما في الأرياف. أما المشاركة السياسية، فكانت شبه معدومة، في ظل بنية اجتماعية تعطي الأولوية للعشيرة والذكورة. وعلى الصعيد القانوني، كانت الأحوال الشخصية خاضعة لتفسيرات دينية واجتماعية متشددة، جعلت من المرأة طرفا ضعيفا في الزواج والطلاق والميراث، ومجرد تابع قانوني واجتماعي للرجل، بلا استقلال حقيقي أو حماية تشريعية.

ثورة أنصفت المرأة

مع إعلان الجمهورية، سارعت الحكومة إلى اتخاذ خطوات عملية لتمكين النساء، انطلاقا من قناعة راسخة بأن النهضة الحقيقية لا تكتمل من دون مشاركة كاملة للمرأة. فقد أعلن قائدها عبد الكريم قاسم في خطابات رسمية أن المرأة "شريكة في النضال والبناء"، وترجمت هذه الأقوال إلى سياسات واقعية.

الأحوال الشخصية: نقلة تشريعية غير مسبوقة

وفي عام 1959، صدر قانون الأحوال الشخصية رقم 188، الذي يعد واحداً من أبرز منجزات ثورة تموز. ساوى هذا القانون بين الزوجين في الحقوق والواجبات، وقيّد تعدد الزوجات، ومنح المرأة حق الطلاق عبر القضاء، وحمى حقوقها في الميراث والحضانة.

ولاقى هذا القانون ترحيبا واسعا في الأوساط التقدمية والنسوية، واعتُبر فتحا قانونيا غير مسبوق، كما واجه مقاومة شرسة من بعض القوى، التي رأت فيه تهديدا لبنيتها التقليدية وسلطتها الاجتماعية.

التعليم والعمل

وأولت الدولة اهتماما كبيرا بتعليم الفتيات، حيث توسعت المدارس في الريف والحضر، وأُطلقت حملات لمحو الأمية استهدفت النساء تحديدا. كما شجعت العائلات على إرسال بناتهم إلى المدارس من خلال منح ومساعدات. ودخلت المرأة ميادين العمل، لا سيما في قطاعات التعليم والصحة والإعلام، فيما تأسست منظمات نسوية قوية ونشطت في الساحة وكان من أبرزها رابطة المرأة العراقية، التي لعبت دورا محوريا في التثقيف والدعم المجتمعي، وساهمت في حملات التوعية والمناصرة لقضايا النساء والفقراء.

مقاومة التغيير

لم تمر هذه التحوّلات من دون ردود أفعال معارضة، إذ واجهت الحكومة حملات تشويه واتّهام بـ "تفكيك الأسرة" و"خرق الشريعة"، واصطدمت مع قوى محافظة دينية وعشائرية كانت ترى في تلك القوانين تهديدا مباشرا لمصالحها وسلطتها.

وبعد الانقلاب الدموي في عام 1963، شهدت البلاد ارتدادا واضحا عن كثير من منجزات تلك المرحلة، خاصة في المجال الاجتماعي، مع بقاء بعض القوانين على الورق دون تنفيذ فعّال.

إلغاء العطلة الرسمية لثورة تموز

وعلى الرغم من المنجزات الواضحة التي قدمتها ثورة تموز، خصوصا للمرأة العراقية، فإن الحكومات اللاحقة عملت على تهميش إرث الثورة في الوعي الوطني. وكان أحد أبرز مظاهر ذلك إلغاء الاحتفاء بالرابع عشر من تموز وحذف المناسبة من قائمة العطل الرسمية، بعدما كانت تعد يوما وطنيا يحتفى به سنويا.

لم يكن هذا الإلغاء مجرد قرار إداري، بل رسالة سياسية متعمدة من الأنظمة اللاحقة لإعادة صياغة التاريخ الرسمي، وتقديم رموز وسرديات بديلة تنسجم مع توجهاتها.

ويمثل هذا التراجع عن الاعتراف بثورة تموز، بالنسبة للمرأة العراقية، خسارة مزدوجة تتمثل بفقدان ذكرى مرحلة فتحت الأبواب أمامها، وتراجع الخطاب الرسمي عن دعم حقوقها كمواطنة كاملة، لتعود السياسات تدريجيا إلى التصورات الأبوية التقليدية.

تشويه منظم لأحد أعظم منجزات تموز

لم يكن قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 مجرد وثيقة تشريعية، بل كان بمثابة إعلان عن ولادة رؤية جديدة للأسرة والمجتمع تقوم على المساواة والعدل. ومع ذلك، فإن هذا القانون واجه لاحقاً موجات متكررة من التعديلات والتهديدات التي سعت إلى سحب مكتسباته وتفريغه من مضمونه.

ومع سقوط النظام عام 2003، ازدادت حدة الهجمات على القانون، إذ ظهرت دعوات إلى إلغائه بالكامل واستبداله بقوانين طائفية خاصة لكل مذهب، كما حدث في محاولة تمرير "قانون الأحوال الجعفري" عام 2014، والذي واجه اعتراضا واسعا من منظمات نسوية ومدنية اعتبرته عودة خطيرة إلى الوراء، خصوصا بما يتيحه من تزويج القاصرات، وتقييد حقوق المرأة في الطلاق والحضانة.

ورغم أن قانون 188 ما زال قائما من حيث الشكل، إلا أنه تعرض لتعديلات كثيرة أضعفت جوهره، وأهمل تطبيقه فعليا في المحاكم بفعل الضغوط الاجتماعية والدينية، مما انعكس بشكل سلبي مباشر على النساء، خاصة في ما يتعلق بحقوقهن في الحضانة والطلاق العادل والنفقة.

إن ما جرى ويجري لهذا القانون هو تشويه سياسي واجتماعي متعمد، يستهدف ليس فقط النص القانوني، بل ما مثّله من مشروع تحرري كانت المرأة العراقية في صميمه.

ذاكرة نسوية لا تُمحى

وأخيرا، إن ثورة 14 تموز 1958، رغم ما تعرضت له من تشويه وتهميش، تظل لحظة فارقة في تاريخ العراق الحديث، خصوصا في ما يتعلق بحقوق المرأة. فقد أرست لأول مرة أسس الدولة المدنية والمواطنة المتساوية، وقدّمت نموذجا لقوانين عادلة ومؤسسات منفتحة على مشاركة النساء.

واليوم، ومع استمرار التحديات السياسية والاجتماعية في البلاد، تبقى تجربة تموز مصدر إلهام للأصوات النسوية التقدمية، التي لا تزال تناضل من أجل مجتمع ديمقراطي، تُستعاد فيه روح تلك اللحظة المؤسسة، وتُستكمل فيه مسيرة تحرر المرأة كشرط لتحرر المجتمع بأسره.

عرض مقالات: