شهد العراق في منتصف القرن العشرين تحولات سياسية واجتماعية كبرى كان أبرزها ثورة 14 تموز 1958، التي أنهت الحكم الملكي وأسست الجمهورية العراقية بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم. وعلى الرغم من التحديات التي واجهت هذه المرحلة، فقد شكلت الثورة محطة مفصلية في تاريخ الطبقة العاملة في البلاد، حيث أرست الأسس الأولى لإشراك العمال في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقدمت جملة من الإنجازات التي انعكست على واقعهم المعيشي والحقوقي.
خلفية تاريخية
قبل ثورة 14 تموز، عانى العمال من أوضاع بائسة وظروف عمل قاسية، حيث كانت حقوقهم محدودة ومهدورة في ظل نظام إقطاعي رأسمالي تتحكم به النخب السياسية والاقتصادية المرتبطة بالاستعمار البريطاني. كان العمال محرومين من التنظيم النقابي الحر، ويتعرضون للطرد الجماعي دون تعويض، كما كانت الأجور منخفضة وساعات العمل طويلة، وسط غياب الرعاية الصحية أو أي نوع من الضمانات الاجتماعية.
الثورة وتغيير موازين القوى
مع اندلاع الثورة، تغيرت ملامح الدولة العراقية، فتم إلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية. شكل هذا التحول نقطة انطلاق لنهج سياسي جديد حاول أن ينحاز للفئات المحرومة، وفي مقدمتها الطبقة العاملة. وكان الزعيم عبد الكريم قاسم من أبرز الشخصيات التي أبدت اهتماما كبيرا بقضايا العمال، حيث سعى إلى تحسين أوضاعهم وتوسيع مساحة مشاركتهم في بناء الدولة.
أبرز المنجزات لصالح العمال
1- تشريع قانون العمل والضمان الاجتماعي
كان من أبرز إنجازات الثورة إصدار قانون العمل رقم 1 لسنة 1958، الذي نظم علاقة العمل بين العامل ورب العمل، وحدد ساعات العمل، ومنع الفصل التعسفي، وضمن حق العامل في الإجازات السنوية والمرضية. كما شمل القانون إلزام أصحاب العمل بتوفير بيئة صحية وآمنة. وفي ذات السياق، شرع قانون الضمان الاجتماعي الذي وفر للعمال شبكة أمان في حالات الإصابة والعجز والشيخوخة، وضمن لهم تقاعدا يحسب وفق سنوات الخدمة والأجر، وهو أمر لم يكن متاحا قبل الثورة.
2- الاعتراف بالنقابات العمالية
من أبرز التحولات التي فرضتها الثورة، الاعتراف الرسمي بالنقابات العمالية ومنحها صلاحيات تنظيمية واسعة، الأمر الذي عزز قدرة العمال على الدفاع عن حقوقهم والتفاوض الجماعي مع أصحاب العمل. وقد لعبت النقابات دورا مهما في دعم الثورة، وتحولت إلى أدوات ضغط فاعلة في رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
3- تحسين الأجور والحد الأدنى للرواتب
أصدرت حكومة الثورة تعليمات بزيادة أجور العاملين في القطاعين العام والخاص، وحددت الحد الأدنى للأجور بما يتناسب مع كلفة المعيشة. وشهدت السنوات الأولى بعد الثورة ارتفاعا نسبيا في دخل العمال، ما ساعد في تحسين مستوى المعيشة، وتقليل الفجوة الطبقية التي كانت سائدة في العهد الملكي.
4- توفير فرص العمل ومشاريع التنمية
أطلقت حكومة الثورة برامج تنموية شاملة تضمنت إنشاء المصانع والمشاريع الصناعية والزراعية، مما وفر آلاف فرص العمل للعمال والفلاحين. وارتفعت نسبة التوظيف في القطاعات الإنتاجية، وخاصة في صناعة النفط، التي شهدت إعادة تنظيم وطني، بعدما كانت تحت سيطرة الشركات الأجنبية.
5- الحق في التعليم والتدريب المهني
حرصت الثورة على دمج العمال في منظومة التنمية الشاملة عبر برامج التعليم والتدريب، فتم إنشاء معاهد مهنية وفنية تهدف إلى تطوير مهارات العاملين في مختلف القطاعات. كما جرى تشجيع العمال على مواصلة تعليمهم، عبر برامج تعليم الكبار ومحو الأمية، وهو ما أسهم في رفع المستوى الثقافي والمعرفي بين صفوف الطبقة العاملة.
التحديات والانتكاسات
رغم هذه المنجزات، إلا أن المسيرة لم تكن خالية من التحديات. فقد واجهت الثورة معارضة داخلية وخارجية شرسة، خاصة من القوى المرتبطة بالنظام القديم والمصالح الأجنبية. كما أن الصراعات السياسية التي عصفت بالحكم في السنوات التالية، أضعفت زخم الإصلاحات، وأثّرت على استدامة المكاسب التي تحققت للعمال. ومع انقلاب شباط الأسود 1963، دخل العراق في نفق من التغييرات السياسية التي أفضت إلى تراجع دور النقابات، والتضييق على الحريات، وتهميش المكاسب التي تحققت بعد الثورة.
وأخيرا ان ثورة 14 تموز مثلت منعطفا تاريخيا في حياة الطبقة العاملة في البلاد، حيث فتحت أمامها أبواب الحقوق والمشاركة والكرامة، بعد عقود من التهميش والاستغلال. وعلى الرغم من أن هذه الإنجازات لم تستمر طويلا بفعل الاضطرابات السياسية اللاحقة، فإنها ظلت راسخة في الذاكرة العمالية كمثال على قدرة الثورات الوطنية على تغيير واقع الطبقات المهمشة، حين تكون الإرادة السياسية حقيقية، والبرنامج الاجتماعي منحازا للعدالة.