اخر الاخبار

يمكن تعريف (تقسيم العمل الدولي The International Division of Labour)  بأنه شكل خاص ومتطور للتقسيم الاجتماعي للعمل، وبهذا المعنى فإنه  يعني التخصص النسبي لكل بلد من البلدان في عدد معين من الأنشطة الاقتصادية. ويمكن أن يعني هذا التقسيم سواء الفروع الكبرى لتلك الأنشطة: زراعية – صناعية – خدمات، أو القطاعات داخل الفروع: التخصص في محصول زراعي أو صناعة استخراجية أو تحويلية. تتشكل بنية تقسيم العمل الدولي إذن (أيا كانت طبيعته) من مجمل عناصر تلك الفروع والتي تتجزأ لعناصر أكثر تخصصا في الأنشطة فيما بين الفروع أو داخلها. غير أن هذه العناصر لا تشكل إلا ما هو عام في أي بنية لتقسيم العمل الدولي (بصرف النظر عن طبيعة هذا التقسيم) والتي لا يمكن أن توضح بمفردها ما هو نوعي في بنية محددة لتقسيم العمل الدولي. إن ما يميز بنية معينة في ظروف تاريخية محددة عن بنية أخرى لتقسيم العمل الدولي هو الأسس التي تتضافر بموجبها تلك العناصر. تتشكل بنية تقسيم العمل الدولي إذن من تضافر العناصر المكونة لها مع أسس محددة تسبغ عليها طابعاً نوعياً وتعطيها ترتيباً خاصا تتسق به وتحكم أي عملية لإعادة ترتيب تلك العناصر داخل إطار منطق تلك الأسس.

وإذا واصلنا الجهد في محاولة تدقيق مفهوم تقسيم العمل الدولي فإنه يمكننا تحديده باعتباره عملية التركز الدائم لإنتاج السلع المادية والخدمات في مختلف البلدان بهدف التبادل مع الخارج وكذلك بهدف تطوير الاستهلاك (بسبب إشباع الحاجات المتنامية) أكثر من القدرات المحلية، وذلك عن طريق استيراد المنتجات من الخارج. وبكلمات أخرى، يمكن القول أن تقسيم العمل الدولي يفترض تجميع وتركيز الإنتاج من مختلف السلع والخدمات أكثر من الاحتياجات الداخلية لبلد معين، مع الآخذ بالاعتبار بيعها (مبادلتها) في الخارج من جهة. ومن جهة ثانية يفترض هذا التقسيم تطور الاستهلاك بأكثر من الإمكانيات الإنتاجية المحلية للبلد المعني، وذلك على افتراض استيراد السلع من الخارج.

اما تقسيم العمل الدولي الرأسمالي (The International Capitalist Division of Labour) فهو تقسيم العمل بين مختلف البلدان الرأسمالية. ظهر هذا التقسيم في اعقاب نمو القوى المنتجة، في البلدان الرأسمالية، وعلى اساس تسابق الرأسماليين وراء أعلى الارباح. وهذا التقسيم تلازمه تناقضات عميقة. فهو، من جهة، يوحد البلدان الرأسمالية في اقتصاد عالمي، يكون فيه اقتصاد كل بلد، جزءاً من النظام الرأسمالي العالمي. أما، من جهة ثانية، فهو يتم في ظروف صراع تزاحمي عنيف بين المؤسسات الرأسمالية في مختلف البلدان يؤدي الى خضوع البلدان الضعيفة للبلدان القوية. فالمزاحمة داخل الفرع وبين الفروع، والتناقضات الصدامية بين القوى المنتجة والعلاقات الانتاجية، هي سمات تميز التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل. أما في مرحلة الامبريالية فقد تركز هذا التقسيم تحت تأثير سيطرة الدول الاكثر تطورا، والاقوى اقتصاديا. وهو يتصف، قبل كل شيء، بتحويل البلدان المستعمرة والتابعة الى ملحقات زراعية تزود الدول المستعمِرة بالمواد الاولية. وتضع الدول الامبريالية مختلف العراقيل في وجهة انشاء هذه البلدان صناعة ثقيلة تكون اساس استقلالها. ويقوم التقسيم الرأسمالي للعمل على علاقات السيطرة والخضوع (هيمنة/تبعية)، ويستغل لاستثمار شعوب البلدان المستعمرة والتابعة من قبل الدول الامبريالية.

تاريخيا، عرف هذا التقسيم شكلين رئيسين:

  1. التقسيم الدولي الرأسمالي التقليدي للعمل، وفيه تم التخصص الزراعي – الصناعي، وبموجبه تخصصت البلدان الراسمالية المتطورة بانتاج السلع الصناعية في حين تخصصت البلدان المتخلفة بانتاج السلع الزراعية والخامات.

يتعين، أولاً، الإشارة الى أنه لا يمكن تلمس بدايات نشوء هذا التقسيم وتحديد مضامينه بدون ربطه ورؤيته كامتداد لفترة الرأسمالية التجارية، أو ما يعرف بالتراكم البدائي لرأس المال، إذ اتخذ التوسع الرأسمالي صيغ فجّة وهمجية. استند هذا الشكل من التوسع على محورين رئيسيين. يستند المحور الأول الى النهب والسلب الكاملين لكنوز وثروات البلدان "الطرفية". فعلى سبيل المثال نقل الى إسبانيا خلال قرن من الزمان ما يوازي ثمانية عشر ألف طن من الفضة ومائتي طن من الذهب وذلك من أمريكا لوحدها. أما المحور الثاني، فكان يقوم على تجارة العبيد، حيث أصبح دور دول "الأطراف" في هذه المرحلة مقايضة البشر بالسلع الآتية من البلدان الأوربية. وقد كان لهذا النوع من "التبادل" عظيم الأثر ليس على تنمية التخلف في بلدان "الأطراف" فحسب، بل وفي تدمير وإفناء شعوب بكاملها. والمميز لهذا النمط أنه فُرض خلال هذه الفترة بالوسائل العسكرية المحضة.

  1. التقسيم الدولي الرأسمالي المعاصر للعمل، وفيه تتركز الصناعات القائدة للتقدم العلمي – التقني في البلدان الراسمالية المتطورة في حين يتم ترحيل الصناعات المتقادمة تكنولوجيا والملوثة للبيئة الى البلدان المتخلفة وتتركز هناك.

من الناحية التاريخية، يمكن القول انه منذ الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية تعرض مجمل نظام علاقات الدول الرأسمالية المتقدمة بالبلدان الطرفية" لتغيرات متعددة الجوانب وظهر نمط جديد لقسمة العمل الدولية. يتعين علينا، إذن، إذا ما أردنا فهم طبيعة التحولات التي جرت في قسمة العمل الدولية ومضاعفاتها المحتملة أن نضعها في منظارها التاريخي الصحيح. إن التحولات التي جرت في قسمة العمل هذه يجب ربطها بعملية التراكم الجارية على صعيد عالمي وأساساً التطورات العاصفة في مستوى القوى المنتجة والآثار التي يتركها على التخصص وتقسيم العمل محليا وعالمياً. إن البلدان الرأسمالية المتقدمة واحتكاراتها مدفوعة تحت تأثير مفعول قانون الميل النزوعي لمعدل الربح الاحتكاري نحو الانخفاض وبتفاقم تناقضاتها الداخلية والمسعى لإيجاد مخارج لها، تتجه نحو التكامل والتدويل المطرد والبحث عن أشكال جديدة للتخصص و"التمدد" نحو مناطق جديدة. وفي ظروف التطور الاقتصادي المتفاوت على صعيد عالمي، وفي ظل ظاهرة كونية التركز والتمركز للإنتاج ورأس المال والنتائج المترتبة على ذلك، فإن الانتقال الاستثماري من "المراكز" الى "الاطراف" يتراكم تراكما متسارعا في "الاطراف"، حيث معدل فائض القيمة أكثر ارتفاعا، ويتيح ذلك، إذن، رفع معدل الربح على صعيد عالمي. إن دفع هذه الأطروحة الى مداها الأبعد يسمح بالقول أن هذا النهج يسمح بإجراء تحديث معين في التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل واستفادة الرأسمال الاحتكاري لصالحه من السنن الموضوعية الملازمة لهذا التقسيم. وتظهر هنا أنماط جديدة من التكامل الدولي وتبرز ظاهرة تدويل الإنتاج والقوى المنتجة بشكل أكثر وضوحاً.

تشكل الثورة العلمية – التقنية وثورة التقانة في عالمنا المعاصر مضمون التطور النوعي والسريع في البلدان الرأسمالية المتقدمة. فقد أتاحت هذه الثورة إمكانية التجزئة التنظيمية للسلسلة التكنولوجية الواحدة، وتوطين حلقاتها بشكل مستقل عن بعضها البعض، مما خلق فرصا افضل لتطور كل حلقة وفقا لمقتضيات الكفاءة الاقتصادية. وبنتيجة ذلك ظهرت الإمكانية لتطور أجزاء منفردة من فروع الإنتاج التي أصبحت هدفا للتخصص وليس هذه الفروع بالكامل. إن التطور الكمي والنوعي للقوى المنتجة يرتبط بصورة لا مرد منها بضرورة تغيير البنية الاقتصادية لعملية إعادة الإنتاج الاجتماعي.

إن جوهر هذه التغيرات في البنية المذكورة يعتمد على تغيير التركيب التقني لرأس المال. ويعني ذلك إن تحقيق الثورة العلمية – التقنية في البلدان الرأسمالية المتطورة يرتبط بشكل محتوم بتردي شروط تحقيق الربح في بعض الفروع الصناعية من جهة، ويلائم من جهة أخرى فروع ثانية مثل الطاقة الذرية، الحاسبات الالكترونية، تكنولوجيا المعلومات  الخ. إن توسيع أسواق التصريف لمثل هذا النوع من السلع يصبح ضرورياً لعملية إعادة الإنتاج في النظام الرأسمالي العالمي، ويحتم ذلك التوسع معطيا إمكانيات اكبر لأسواق البلدان "الطرفية". غير أن التحول في بنية اقتصاد البلدان الرأسمالية المتقدمة، الذي هو نتاج التطورات في مستوى القوى المنتجة وأساسا الثورة العلمية – التقنية وثورة التقانة عموما، بغض النظر عن تناقضاته، يصطدم بمحدودية البنية الكولونيالية الضعيفة التطور التي تبرهن على أنها أصبحت عقبة أمام تطور الرأسمالية في طور ارتقائها الى مرحلتها الإمبريالية. إن البنية الكولونيالية، التي كانت تتفق تماما مع بنية وحاجات عملية إعادة الإنتاج في البلدان الرأسمالية المتطورة، تصبح في ظروف ثورة التقانة متناقضة بشكل متصاعد مع الاحتياجات الفعلية لعملية إعادة الإنتاج وتحقيق الربح في "المتروبولات القديمة". لهذا يمكن القول أن البنية الاقتصادية في البلدان النامية التي هي ذاتها نتاج التطور التاريخي للرأسمالية كتشكيلة عالمية البعد تتحول، في مرحلة محددة، الى عائق جدّي أمام تطور الاحتكارات والدول الرأسمالية المتقدمة من اجل انتزاع فائض القيمة على صعيد عالمي، الأمر الذي يحتم تغييرها، أي أن ذلك يتطلب تقسيم عمل جديد بين البلدان الرأسمالية المتقدمة والبلدان النامية. ويفترض التقسيم الجديد "إعادة بناء" البنية الاقتصادية المشوهة للبلدان النامية طبقا لـ "روح" التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل، مستهدفا إبقاء هذه البلدان "شركاء مربحين وضروريين" في المنظومة الرأسمالية العالمية. ويتعين على البلدان النامية، في هذا التقسيم، أن تلعب دور التابع والمستغَل والمتخلف (بما في ذلك التخلف العلمي والتقني)، أي أن تظلّ "أطرافا" للاقتصاد الرأسمالي العالمي، حيث يعاد إنتاج علاقات التبعية والاستغلال والتخلف على قاعدة اكثر حداثة تكنولوجياً !!

إن ابرز الاتجاهات الجديدة في قسمة العمل الدولية الرامية الى تحقيق الاندماج الرأسي، تتمثل في التأثير على عملية التصنيع في البلدان النامية وذلك باتجاه إعادة النظر في أنماط التبعية التقليدية والبحث عن أشكال جديدة.

ويتجلى هذا الأمر في عملية نقل عالمي للصناعة والمرتبط بتطورات جدية في بنية الإنتاج في البلدان الرأسمالية المتقدمة. بموجب هذا التوزيع الجديد للصناعة على صعيد عالمي تتخصص البلدان النامية بالإنتاج الصناعي الكلاسيكي وبعض الصناعات "الحديثة" فيما تحتفظ البلدان الرأسمالية المتقدمة بالفروع الصناعية الفائقة التحديث (الأتمتة، الذرة، غزو الفضاء، الالكترونيات ....الخ) القائدة للتقدم العلمي - التقني. ومن المفيد الإشارة هنا الى أن الصناعات "المهاجرة" من "المراكز الإمبريالية" لا تتوزع بالتساوي بين جميع مناطق وبلدان "الاطراف"، بل تتركز في البعض منها، طبقا لأهمية هذه التخوم الصناعية الجديدة في إجمالي الاستراتيجية الاقتصادية للبلدان الرأسمالية المتطورة. تقوم "التخوم الجديدة" باستيراد رؤوس الأموال والتكنولوجيا من "المراكز" وتصدير منتجات تلك الفروع نحو البلدان الرأسمالية المتطورة بشكل رئيسي، وعرضيا نحو البلدان النامية. إن تركز الصناعات التقليدية في "الاطراف الصناعية الجديدة" متضافراً مع معدل استغلال مرتفع للشغيلة في هذه البلدان سوف يتيح للبرجوازيات الحاكمة (بمختلف فئاتها) الاستفادة من قسم من الفائض المتحقق يكفي لتأمين "التوازن" السياسي للنظام. وأياً كان أسلوب توزيع هذه الوحدات الإنتاجية (الصناعات) على الصعيد العالمي، فإن المهم هنا هو التأكيد على أن كل وحدة لا تؤدي إلاّ وظيفة إنتاجية جزئية ومتخصصة داخل قسمة العمل الدولية الرأسمالية المعاصرة. ولهذا يمكن القول أن كل وحدة من هذه الوحدات الاقتصادية ليس لها أية قيمة اقتصادية إلا باعتبارها حلقة من سلسلة متصلة على الصعيد العالمي يتحكم فيها رأس المال الإمبريالي المهيمن والاحتكارات المتعدية الجنسية.

عرض مقالات: