اخر الاخبار

رغم قدرة الذكاء الاصطناعي على أن يلعب دورًا مهمًا في خدمة الحركات السياسية، وخاصة تلك المعنية بمفاهيم الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة، سواء في المساعدة على إعادة توزيع الثروة، أو في تعزيز الشفافية، أو زيادة أوقات الاستراحة للعاملين، أو في بناء شبكات تضامن أممية، فإنه يبقى أداة بيد الطبقة التي تمتلكه. فالشركات الكبرى التي تحتكر تقنيات الذكاء الاصطناعي تستخدمها اليوم في مراقبة العمال، وبثّ رعب إحلال الآلة مكانهم، وتقليل فرص العمل، وزيادة البطالة، وتحقيق أرباح خيالية، وتعميق التفاوت الطبقي.

وتنطبق الصورة المتناقضة ذاتها على الدور الذي يمكن أن يلعبه الذكاء الاصطناعي في مجال الفكر والدعاية السياسية والإعلام. فمقابل السرعة الهائلة التي يوفّر بها المعلومات، والمساعدة في تعزيز دقة البيانات وكفاءة تحليلها، وتقديم محتويات أكثر إقناعًا وجاذبية، تُفاقم الدوائر الإمبريالية المتحكمة بالذكاء الاصطناعي مشكلة الأخبار الزائفة، والمعلومات المضلّلة، والدعاية المضادة، وبالتالي يسهل عليها التلاعب بالرأي العام، وزعزعة الثقة وتخريب السلم الأهلي، وانتهاك الخصوصية، وإعطاء معنى وهمي للشفافية.

وهذا ما بدأ يتكشف للمراقبين والخبراء، حيث يتم تضمين إجابات الذكاء الاصطناعي بالعديد من المفاهيم المرتكزة على الفكر الليبرالي والنيوليبرالي، والمبرِّرة للاستغلال الرأسمالي، ولنزعات التفوق العنصري، وتلك التي تعرض حقوق الإنسان، وخاصة في الحرية والعدالة الاجتماعية، بطريقة ذكية ومموهة بعناية فائقة، تحفّز على التسليم بالوضع الراهن باعتباره أفضل ما يمكن تحقيقه، وتعزز الأفكار الفردية، وتشجع السلبية لإضعاف التضامن بين المستغلين، والتركيز على الاستهلاك بدلًا من التفكير في القضايا الاجتماعية والسياسية.

لقد أكد باحثون أوروبيون، وبشكل خاص بعض الإسكندنافيتين، على أن أجوبة الذكاء الاصطناعي، المحكومة بقرارات بشرٍ مجهولين، أظهرت تحيزات، خلقت لدى نصف المستخدمين شعورًا وهميًا بالثقة المفرطة، والنفور من التفكير لحل أي غموض. وحذروا من مخاطر الاستخدام غير الواعي للذكاء الاصطناعي، لا سيما حين ينتشر هذا الاستخدام بصورة كبيرة في الكتابات، والأفلام القصيرة، والتعليقات الصوتية المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك في المقالات الصحفية وبعض التقارير ومحاضرات ومواد التثقيف السياسي والنشاط الداخلي لبعض الحركات والقوى السياسية.

ولهذا صار مهماً جداً الانتباه الدقيق للتحذيرات من عدم تزويد الذكاء الاصطناعي بأي تقرير أو معلومة أو خبر خاص، سواء شخصي أو متعلق بدائرة المستخدم، أو مهنته، أو الشركة التي يعمل بها، أو المؤسسة السياسية أو النقابية التي ينتمي إليها، لأن ذلك يُخرج المعلومات عن سيطرة المستخدم ومؤسسته، وينتهي المطاف بهذه المعلومات لتصبح ملكًا لأداة تابعة لجهة خارجية تقع خارج نطاق الحماية.

كما أن من المهم التأكيد على أن هذه التطبيقات تميل إلى "الوهم"، أي أنها تُنتج أحيانًا معلومات غير صحيحة وتقدمها على أنها حقائق، ولا تحتوي دائمًا على أحدث المعلومات، مما قد يجعل الإجابات مضلّلة عند السؤال عن أحداث جارية أو مواضيع سريعة التغير، ناهيك عن صعوبة كشف التضليل المموه بعناية والخطاب المتستر بالكثير من افكار وقيم المستخدم، لتُبهجه وتصرف انتباهه عن المضمون الحقيقي لتلك الاجابات والذي غالباً ما يكون مخالفاً لتلك الأفكار والقيم.

ولكي يتبيّن لنا الخيط الأسود من الأبيض، ويدرك المعجبون بهذه التطبيقات، فداحة الثمن الذي يدفعونه، دعونا نورد نتائج أهم الدراسات التي حذّرت من الاستخدام غير المسؤول لهذا الذكاء.

فقد أفادت دراسة أكاديمية نُشرت في تموز 2024، بأن نسبة القلقين في العالم من التأثر بالمعلومات الزائفة في وسائل الإعلام قد وصلت إلى 60 في المائة، وارتفعت إلى 72 في المائة في الولايات المتحدة، و77 في المائة في اليونان والمجر. كما أثبتت دراسة أجرتها جامعة لوند السويدية أن استخدام الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى تدني النشاط الأكاديمي للطلبة، وإلى تبنٍ تدريجي لقناعات تختلف عما لدى المستخدم. وقد يدفع الشباب الذين يعانون من مشكلات نفسية كامنة أو عزلة اجتماعية إلى التطرّف، واعتماد أطروحات الذكاء الاصطناعي كمسلمات نهائية. ووجدت الجامعة أيضًا أن 2 في المائة فقط من مستخدمي هذا الذكاء من السويديين يثقون بالتطبيقات، و20 في المائة يثقون ببعض استخداماتها، فيما لا يثق الباقون بها إطلاقًا، خوفًا من التعرض للخداع جراء الأخطاء الواقعية المباشرة والخفية.

إن قدرة الذكاء الاصطناعي على اختلاق الأحداث، والصور، والفيديوهات التي تشبه الحقيقة تمامًا، والنفاذ إلى تفاصيل حياتنا العامة والخاصة، وإضعاف قدرتنا على إعمال العقل فيما نواجهه، ودفعنا إلى أي شيء يستثير عواطفنا، تطرح علينا أسئلة خطيرة، في مقدمتها: كيف نستفيد من هذه التطبيقات دون أن نقع في حبائلها؟ وكم علينا أن نكون واعين لكي لا نقدم خدمات طوعية للعدو الطبقي، الذي دَسّ لنا سمّ خداعه في عسل سرعة ودقة إنجاز بعض الكتابات والأعمال، وأبعدنا -ربما- عن الحاجة لبذل الجهد وتنشيط العقل؟!

عرض مقالات: