اخر الاخبار

تعد عمالة الأطفال واحدة من أبرز التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه البلاد منذ سنوات طويلة، إذ أصبحت ظاهرة متفشية في المدن والأرياف على حد سواء، حتى غدت مألوفة في الأسواق، وورش العمل، والشوارع. ورغم خطورة هذه الظاهرة، وتأثيرها العميق على مستقبل الأجيال، إلا أن غياب السياسات الحكومية الجادة في مكافحتها يثير تساؤلات ملحة: لماذا لا تلتفت الحكومة العراقية إلى عمالة الأطفال بالقدر الكافي؟

واقع مرير يعيشه الأطفال

في مختلف المحافظات، يمكن أن تشاهد الأطفال يعملون في مهن شاقة تفوق أعمارهم، مثل بيع السلع البسيطة في الشوارع، والعمل في الورش الميكانيكية، وحمل الأثقال، وحتى الانخراط في أعمال البناء. بعضهم يشتغل لساعات طويلة مقابل أجور زهيدة، فيما يُحرم آخرون من التعليم ويُُجبرون على ترك مقاعد الدراسة بسبب الفقر أو الظروف العائلية الصعبة.

وتشير الأرقام، وإن كانت متضاربة بسبب ضعف الإحصاءات الرسمية، إلى أن آلاف الأطفال العراقيين يعملون في ظروف غير إنسانية. هذه الظاهرة تهدد جيلا كاملا بالحرمان من حق التعليم، وتنذر بترسيخ دوامة الفقر والجهل، إذ يصبح الطفل الذي يترك المدرسة اليوم، أبا غير متعلم غدا، ما يعني إعادة إنتاج المشكلة بشكل متواصل.

الأسباب الاقتصادية والاجتماعية

ويعد الفقر والبطالة الواسعة التي تعاني منها العائلات، من أبرز أسباب عمالة الأطفال في العراق. فالأسر محدودة الدخل غالبا ما تضطر لإرسال أبنائها إلى سوق العمل لتأمين قوت يومها، خاصة في ظل غياب شبكات الضمان الاجتماعي الفاعلة. كما لعبت النزاعات المسلحة والأزمات السياسية دورا بارزا، إذ أنتجت ملايين الأرامل والأيتام، ودفعت آلاف العائلات للنزوح، ما جعل الأطفال يتحملون مسؤوليات تفوق أعمارهم. إلى جانب ذلك، ما زالت بعض الأعراف الاجتماعية تنظر إلى عمل الطفل بوصفه مساهمة إيجابية في إعالة أسرته، من دون إدراك العواقب بعيدة المدى.

غياب السياسات الحكومية الواضحة

ورغم خطورة هذه الظاهرة، لا يبدو أن الحكومة العراقية وضعت معالجة عمالة الأطفال ضمن أولوياتها. فالتشريعات القائمة، مثل قانون العمل العراقي، تحدد الحد الأدنى لسن العمل بـ 15 عاما، لكنها تبقى حبرا على ورق في ظل ضعف آليات الرقابة وانعدام العقوبات الرادعة.

وزارات العمل والتربية والداخلية لم تتمكن من بلورة خطة وطنية متكاملة للحد من الظاهرة، بل إن التنسيق بينها يكاد يكون معدوما.  وغالبا ما تطرح المشكلة في المؤتمرات والندوات كعنوان إنشائي، من دون أن تترجم إلى خطوات عملية على الأرض، مثل برامج دعم مالي مباشر للعائلات الفقيرة، أو توفير بيئة تعليمية جاذبة تحمي الأطفال من الانقطاع عن الدراسة.

وهنا يبرز تساؤل آخر أكثر إيلاما: لماذا لا يشمل الأطفال العاملون ـ على الرغم من استغلالهم في مهن خطرة ومجهدة ـ بأي شكل من أشكال الضمان الاجتماعي، الذي يفترض أنه يحمي العاملين؟ إن تجاهل هذه الفئة لا يفضح فقط هشاشة السياسات الحكومية، بل يكشف عن قصور عميق في فهم معنى العدالة الاجتماعية، إذ يتركون بلا حماية ولا حقوق، وكأنهم غير موجودين في حسابات الدولة.

التذرع بالأزمات الأكبر

أحد التفسيرات لغياب الاهتمام الحكومي يتمثل في انشغال الدولة بأزمات تبدو أكبر وأشد تعقيدا، مثل الملف الأمني، الصراعات السياسية، الفساد المالي، وتحديات إعادة الإعمار. في هذا السياق، توضع قضية عمالة الأطفال في مرتبة ثانوية، باعتبارها مشكلة اجتماعية يمكن تأجيلها، بينما تعطى الأولوية للقضايا الأمنية والسياسية. لكن هذا التبرير يُظهر قصر نظر واضح، لأن استمرار الظاهرة يعني تكريس جيل غير متعلم وضعيف البنية، ما يفاقم من أزمات البلاد المستقبلية. فالأمن والاستقرار لا يمكن تحقيقهما من دون الاستثمار في الإنسان، وخاصة في الطفولة التي تشكل أساس أي مجتمع.

دور المجتمع المدني والمنظمات الدولية

في ظل هذا الغياب الرسمي، حاولت منظمات المجتمع المدني، إلى جانب المنظمات الدولية مثل اليونيسف ومنظمة العمل الدولية، سد الفراغ من خلال إطلاق حملات توعية، وتوفير دعم نفسي وتعليمي للأطفال العاملين. غير أن هذه الجهود تبقى محدودة مقارنة بحجم المشكلة، ولا يمكن أن تنجح من دون دعم مباشر من الحكومة عبر تشريعات وإجراءات تنفيذية صارمة.

الحاجة إلى رؤية وطنية

إن معالجة عمالة الأطفال تتطلب رؤية وطنية شاملة تبدأ من تجفيف منابع الفقر عبر سياسات اقتصادية عادلة، وتمر عبر تعزيز شبكة الضمان الاجتماعي، بحيث لا تجبر العائلات على إرسال أبنائها للعمل، وصولا إلى إصلاح النظام التعليمي ليصبح بيئة جاذبة للأطفال، بدلا من أن يكون عبئا ماليا ونفسيا على أسرهم.

كما يجب تفعيل الرقابة على أصحاب العمل الذين يستغلون الأطفال، وفرض عقوبات واضحة وصارمة بحقهم. وبالتوازي، ينبغي تنفيذ حملات توعية اجتماعية تغيّر من الصورة النمطية التي تعتبر عمل الطفل "مساعدة للعائلة"، لتبرز أن ذلك هو استلاب لحقه في التعليم والنمو السليم.

وأخيرا، السؤال عن سبب تجاهل الحكومة العراقية لظاهرة عمالة الأطفال يكشف عن خلل عميق في ترتيب الأولويات الوطنية. فبينما تغرق الدولة في ملفات السياسة والأمن، يتعرض مستقبل البلاد للتهديد بصمت من خلال إهمال جيل كامل.

 إن ترك الأطفال يكدحون في الشوارع والورش وهم في عمر الدراسة يعني إنتاج مجتمع هش، يعاني من الجهل والفقر والعنف. وبالتالي فإن الالتفات إلى هذه الظاهرة ليس مجرد خيار اجتماعي أو أخلاقي، بل هو استثمار في مستقبل العراق برمته. فالدول تُبنى عبر الأجيال، وإذا ضاعت الطفولة، ضاع معها الأمل في غد أفضل.

ويبقى التساؤل مفتوحا بإلحاح: لماذا يترك الأطفال العاملون خارج مظلة الضمان الاجتماعي، وكأنهم ليسوا جزءا من الطبقة العاملة التي يفترض بالدولة حمايتها؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تمثل اختبارا حقيقيا لمدى جدية الحكومة في حماية المواطن العراقي، صغيرا كان أم كبيرا.

عرض مقالات: