اخر الاخبار

في السنوات الأخيرة، تنامى الاهتمام مجددًا في أوروبا وخارجها بالاشتراكية، ربما بسبب تزايد عدم المساواة، والتغير المناخي المخيف، وإخفاقات الحوكمة النيوليبرالية. وقد رافق هذا الاهتمام جدل واسع، لم يخلُ من مرارة انهيار التجربة الواقعية الأولى، والمتغيرات التي شهدها العالم بعد ذلك الانهيار.  ولعل من أبرز الكتب التي ناقشت الأمر بعمق، كتاب (الاشتراكية الإسكندنافية)، للمنظّر في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الدنماركي والناطق الرسمي باسم تحالف الحمر والخضر، بيلي دراغستيد، الذي لعب دورا رائدا في تطوير استراتيجيات اليسار في بلاده، وفي استجاباته للتحولات السياسية والاقتصادية خلال العقدين الماضيين.

مجتمع هجين

يعتمد كتاب دراغستيد على التجربة الاقتصادية والسياسية للدنمارك في إعادة تحليل وتفسير استراتيجية اليسار، مما قاده إلى استنتاجات غير تقليدية. فهو يرى أن الاقتصار على تقييم الدول الإسكندنافية بوصفها أنظمة رأسمالية خالصة يعيق قدرة اليسار على بناء بدائل اشتراكية ناجحة، كما يغفل قيمة مؤسسات مهمة، مثل التعاونيات التي يملكها العمال، والقطاع العام القائم خارج السوق. ويؤكد دراغستيد على أن هذه المجتمعات هجينة، تجمع بين الرأسمالية والاشتراكية بدرجات متفاوتة من بلد إلى آخر، وأن السعي لإسقاط الرأسمالية واستبدالها بالاشتراكية دفعة واحدة هو نهج غير مثمر، ويحول دون إجراء إصلاحات جذرية وفعالة. ومن هذا المنطلق، يقترح دراغستيد سلسلة من عشرة إصلاحات تمهد الطريق نحو اقتصاد أكثر ديمقراطية؛ خمسة منها تركز على ديمقراطية وتوزيع الملكية، والخمسة الأخرى تهدف إلى تقليص دور السوق وتحويل الخدمات إلى حقوق اجتماعية. ويركز دراغستيد على وجود مساحات خارج سيطرة الرأسمالية، مثل التعاونيات والخدمات العامة، يمكن توسيعها تدريجيا، إذ لا توجد - حسب تصوره - قطيعة مفاجئة بين الرأسمالية والاشتراكية، بل انتقال مستمر بينهما. وهو يرى أن التعاونيات قادرة على المنافسة، وأكثر إنتاجية، وتمنح أجورا أعلى، وتقاوم الأزمات بشكل أفضل، ولا بد من استخدام أدوات سياسية لتشجيعها، وتفضيلها في العطاءات الحكومية، ومنحها دعمًا ماليًا وغير ذلك.

ويخشى دراغستيد من التأميم ومن دور الدولة، حيث أثبتت التجربة التاريخية - برأيه - أن ذلك قد يؤدي إلى مركزية مفرطة؛ فرغم أن الملكية تصبح "عامة" بالاسم، فإن الناس لا يشعرون بأنها ملكهم. ويقترح بدلا منها نماذج ملكية ديمقراطية مباشرة، كالتعاونيات وصناديق العمال وتنظيم السوق، دون أن يرفض الملكية العامة، بل يرفض أن تقوم الاشتراكية فقط على ملكية الدولة.

اليسار والرأسمالية

يتناول كتاب (الاشتراكية الاسكندنافية) التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدنمارك ودول الشمال، ويطرح مقترحات لبناء اشتراكية ديمقراطية تمنع الرأسمالية من الهيمنة على الاقتصاد، لما تمثّله من نظام غير عادل، يهدد أسس الديمقراطية نفسها. كما هو الحال في الولايات المتحدة، حيث يؤدي تركز الثروة في النظام الرأسمالي إلى نشوء قوة أوليغارشية ذات نفوذ سياسي، لا يستند إلى تفويض ديمقراطي، بل إلى السيطرة على الثروة.

وعلى الرغم من أن دراغستيد يرى اليسار بارعا في فضح مضار الرأسمالية، إلى الحد الذي بات فيه الملايين يقرّون بخطر استمرار هذا النظام، إلا أنه لا يجده قادرا على حشد أغلبية تنجز تحوّل الاقتصاد نحو نموذج أكثر عدالة وديمقراطية، أي نحو الاشتراكية؛ وذلك بسبب ضعف قدرة اليسار على تقديم بديل واقعي، والإجابة عن الأسئلة الصعبة المتعلقة بديمقراطية الاقتصاد وسوق العمل. ولهذا السبب، ظلّت الاشتراكية تُعامل في هذه المجتمعات لفترة طويلة كحلم طوباوي، غير متجذر في النضالات اليومية، سواء في البرلمان أو النقابات أو الحركات الشعبية. ومن هنا، صار لزاما أن تُطرح الاشتراكية بشكل ملموس ومفهوم وقابل للتطبيق.

رأسمالية "لطيفة"

لا يتفق دراغستيد مع توصيف دولة الرفاه في المجتمعات الإسكندنافية بالرأسمالية بـ"اللّطيفة"، مستشهدا بشخصيات يسارية أمريكية وبريطانية، مثل بيرني ساندرز وألكساندريا أوكاسيو-كورتيز وجيريمي كوربين، الذين رأوا في دول الشمال مصدر إلهام لوجود عناصر اشتراكية قوية. فإذا عرّفنا الاشتراكية - حسب دراغستيد - بأنها تنظيم النشاط الاقتصادي ضمن إطار ديمقراطي للملكية المشتركة، فإن الدول الإسكندنافية أقرب إلى الاشتراكية من الولايات المتحدة؛ لأنها تمتلك قطاعات عامة ضخمة في مجالات التعليم والصحة والرعاية، مملوكة وتدار من قبل الدولة، وممولة من الضرائب، وليس من السوق. كما يضم القطاع الخاص تعاونيات واتحادات يملكها العمال أو المستهلكون؛ إذ تعود ملكية ثاني أكبر سلسلة متاجر في الدنمارك لحوالي مليوني مواطن، وهناك 20 في المائة من المساكن مملوكة بشكل جماعي من خلال تعاونيات سكنية غير ربحية.

الهجوم النيوليبرالي

ويشير دراغستيد في كتابه إلى أن النموذج الإسكندنافي بلغ ذروته في السبعينيات، حين كان الرخاء الاجتماعي في أوجه، وقد وُضعت حينها خطط لنقل ملكية الشركات الكبرى إلى صناديق يسيطر عليها العمال. لكن الهجوم النيوليبرالي اللاحق قلّص تلك المكاسب عبر الخصخصة وتراجع دور الدولة. ورغم المقاومة المتواصلة، التي نجحت في عرقلة القضاء على القطاعات العامة والتعاونيات، فإنه وبدون تغيير بنية الملكية، يبقى أي إصلاح اجتماعي هشا وسهل الانهيار. ولكي تتحقق هذه الاشتراكية الديمقراطية الراديكالية، التي تستلهم أفضل ما في الاشتراكية الديمقراطية التقليدية، وتضيف إليها إصرارا على التغيير البنيوي، أي ليس فقط في توزيع الثروة، بل في تغيير الملكية أيضا، يرى دراغستيد ضرورة وجود دعم شعبي قوي، ونقابات عمالية فاعلة، وتقليص نفوذ الطبقة المالكة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن موقع مؤسسة روزا لوكسمبورغ – بتصرّف

عرض مقالات: