دخلت البشرية رسميا، مع بدء اجتياح القوات الروسية لأوكرانيا، مرحلةً او “منعطفاً” تاريخياً جديداً. لكن جِدّته لم تتأتَ من الحدث ذاته، فهو ليس حدثاً غير مسبوق. فتفاصيله وملابساته، بكل آلامها ودمويتها معادة. كما ان “مسوغاته” الايديولوجية بكل زخارف كذبها مكرورة الى حد الغثيان.

فهو يتشابه الى حد كبير مع وقائع قاسية ودموية اخرى جرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فاستباحة سيادة الدول، وانتهاك “الشرعة الدولية”، مسألة مألوفة على مسرح الصراع العالمي خلال هذه الأعوام. وبعضها مثّل حروبا بالوكالة لصالح بلدان المراكز الرأسمالية. كما انها في غالبيتها، حدثت في بلدان الأطراف بعيدا عن اراضيها. وفي هذه النشاط تحوز الولايات المتحدة الامريكية قصب السبق، بلا منازع. حيث ان الحروب والانتهاكات غير الأمريكية، كانت دائما تجري على هامش هيمنتها.

ما الفريد المميز في هذه الحرب؟

ان ميزة الحرب الرئيسية، انها أعادت الى الواجهة، الى الذاكرة، ما كان كامنا او مستورا، وما صار منسيا من طبيعة الامبريالية، وجوهرها. هذا الجوهر القائم أساسا على الصراع من اجل تقاسم العالم والتنازع على مناطق الهيمنة والنفوذ، وانتهاز الفرص لتوسيع “المجال الحيوي” وفضاء التأثير، او على الأقل الاستقتال في سبيل المحافظة والتمسك بما تحت يديها. ان هذا الصراع بين المراكز الامبريالية، يقود لا محالة، عاجلا ام اجلا، ومهما طال الزمن الى: الحرب. فالحرب هي نزوع متأصل، بل هي سمة الامبريالية الجوهرية وجزء اساسي من طبيعتها.

وان فترة الهدوء، والكمون النسبي للصراعات الصريحة والمفتوحة، الذي تلا الحرب العالمية الثانية، يمثل مجرد “مرحلة انتقالية”، ساهم في تشكلها واستمرارها تشابك وتداخل الكثير من الظروف والعوامل. لعل من أبرزها: وحشية الحرب العالمية وويلاتها؛ الحرب الباردة وما رافقها من توازن رعب نووي، وما تلاها من هيمنة الولايات المتحدة “شرطي العالم”، الذي يقود نهاية مزعومة للتاريخ؛ تنامي حركات التحرر الوطني والقوى التقدمية وانحسار الاستعمار؛ ابتكار اشكال متنوعة من “الاستعمار الجديد”، واعتماد الحروب بالوكالة. وقد نهض كل هذا على أساس تحولات عميقة في بنية الرأسمالية، أدت في نهاية المطاف الى استفحال وتغول كل اشكال رأس المال الوهمي المعاصرة، والذي يتطلب أساسا استقرارا وهدوءا في الاسواق.

لماذا العودة الى الصراع العلني والمفتوح عسكريا

في هذه اللحظة بالذات؟

بعيدا عن الدخول في الملابسات الملموسة للحرب الحالية، وتفاصيلها التاريخية، ترى ما هي الشروط والعوامل التي فعلت فعلها خلال السنوات الماضية، وساهمت في انهاء مرحلة الهدوء، وعرّت حقيقة الرأسمالية المعاصرة؟ كونها أساسا قائمة على الهيمنة والسيطرة، وان الحرب ستظل واقعة حتمية في سيرورات تطورها؟

يبدو أن اول هذه الشروط هو تضعضع هيمنة ومكانة الولايات المتحدة، باعتبارها القوة العظمى التي تقود العالم. فهي تواجه باستمرار منافسات سياسية واقتصادية متنامية، لم تعد قادرة على منعها او إعاقتها. بل حتى ان جبروتها العسكري وسيطرتها على النظام المالي العالمي، لم يمكناها من كبح نزعات الهيمنة والسيطرة عندهم. وقد ترافق ذلك مع صعود إدارات ضعيفة الى سدة الرئاسة الامريكية.

 وعلى الرغم من اختلاف المراكز الرأسمالية، الصاعدة والقديمة على كيفية التخلص من هذه الهيمنة او اضعافها على اقل تقدير، واختلافهم حول البديل، لكنهم يتفقون ضمنياً على أن زمن النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة شارف منذ مدة على الانتهاء. وهذ الاستنتاج لم تتوصل له الصين وروسيا فقط، ومن يدور في فلكهم من دول “مارقة” او “غير مارقة”. بل ان الاتحاد الأوربي ودوله الأساسية: المانيا وفرنسا قد توصلتا الى ذات الاستنتاج. وقد تجلى هذا على وجه الخصوص، مع بروز مشاكل تجارية وتباينات سياسية واضحة بينهم في السنوات الأخيرة.

ثانيا. الفشل السياسي والعسكري المتكرر للتدخلات الامريكية في العالم، وتهاوي كل ذرائعها المختلقة، اثبتا ان “نظاما عالميا” تقوده الولايات المتحدة الامريكية سيظل يعاني من تشققات وخروقات كثيرة. فلا أحد يستطيع نسيان فشل التجارب الامريكية، في تحقيق أهدافها على كافة الأصعدة، سواء في الصومال ام العراق واخيرا أفغانستان وسوريا غيرها.  بل ان فشلها أوضح في كونها لم تعد قادرة حتى على لجم الدول والقيادات التي تخرج عن طوعها.

 ثالثا، شهدت بلدان المركز الرأسمالي في العقود الأخيرة تناميا لافتا في الخطاب الشعبوي، استطاع الكثير من رموزه الوصول الى سدة الحكم. وهو وان كان مدموغاً بطبعة تتلاءم مع متطلبات العصر فإنه يبقى في حقيقته خطاباً ايديولوجياً محافظاً في جوهره بل وحتى رجعيا في بعض مضامينه، يلعب ببراعة وتهور على حدود الصراع بين اليمين التقليدي والمتطرف حول قضايا من قبيل: الدين والقومية. ويوظف كل الطاقات في سبيل ابتكار سرديات “تاريخانية” تخدم مشروعه: التخلص من تبعات أزمات بلده المركبة عبر مسخ، او حتى إلغاء الاخر.

وإذا اضفنا الى ما سبق شروط وعوامل اخرى لا مجال لتفصيلها هنا، على أرضية الاضطرابات الاقتصادية العميقة التي ضربت المنظومة الرأسمالية خلال العقود الثلاثة الاخيرة، وفي مقدمتها الازمة الاقتصادية العالمية عام 2008 والازمة الاجتماعية الاقتصادية التي رافقت تفشي وباء كورونا، وما رافق هذه الاضطرابات والازمات من انحسار واضح للخطاب النيولبرالي؛ إذا وضعنا كل هذا في الحسبان نستطيع تتبع مسارات التقاطع بين هذا النزوع التاريخي المتأصل من اجل تقسيم وإعادة تقسيم مناطق النفوذ والهيمنة، بالخلفيات السياسية للأزمة الروسية الأوكرانية، والتي أدت الى اندلاع الحرب.

دمار شامل ام نظام عالمي جديد؟

بعد اندلاع الحرب، جرى الحديث عن منعطف تاريخي وعن مرحلة تاريخية، تكاد ان تكون غير مسبوقة. فالرعب النووي ليس امرا مستبعدا عن الطاولة، ويعد الامكانية الأشد تطرفا. فقد جرى التلويح به، حتى وان كان على سبيل التنبيه او التذكير لا التهديد. والقضية لا تحتاج الا الى متعصب مخبول كي يلقي بالبشرية الى الهاوية. والنتيجة، بدلا من حرب عالمية ثالثة “نووية”، ستترك أوكرانيا لتواجه مصيرها بنفسها.

وجرى الحديث ايضا عن ارهاصات نظام عالمي جديد، تؤذن بشائره بأفول الهيمنة الامريكية. وهذا هو التحدي الرئيسي الذي يواجه المنظومة الرأسمالية العالمية، وهذا بالتأكيد أكبر من الازمة الأوكرانية بكثير. ربما نحن اليوم شهود لانطلاق مرحلة ستنتهي خلالها الزعامة المطلقة للولايات المتحدة. يعاد فيها تنظيم التوازنات الامبريالية مرة أخرى، لصالح بناء عالم متعدد الاقطاب.

التضامن مع الشعوب ومناصرتها قضية مبدأ

إن التضامن مع الشعوب المظلومة ومناصرتها مسألة مبدأ، يجب ان تبقى بعيدة كل البعد، عن جميع الحسابات الضيّقة، سواء أكانت للمعتدين، ام لمنافسيهم. ثم ان مهمة الثوريين ستبقى تغيير العالم. ولا مجال للشك نهائيا انه لا يمكن الخلاص من شرور النظام الرأسمالي الا باقتلاعه من جذوره. وهذا يستلزم الوقوف الدائم بوجه كل اشكال النزعات الامبريالية المتأصلة فيه. كما ويستلزم ايضا تضامناً اممياً لا هوادة فيه مع جميع الشعوب المقهورة. وإنجاز هذه المهمات يقع أولا وأخيرا على عاتق الطبقات الكادحة وقوى اليسار والسلام والتقدم في بلدان المراكز والاطراف. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كلمة “الثقافة الجديدة” العدد 429 شهر آذار 2022

عرض مقالات: