قبل 88 عاماً، إكتشف فتية عراقيون، طريق السير نحو المدن الفاضلة، فإبتكروا قاربهم من نور، بدد العتمة وأستودع القلبَ وطناً من بنفسج، وسرى كشذى الزهر بين البيوت الفقيرة، فأشرع نوافذها لنسائم العدالة والحرية. وخلال 88 عاماً، حاول الطغاة، بسحنهم المختلفة، حرمان العراق من فتيته وقاربِهم، عسى أن يستوطنه الخبل، لكنهم ارتدوا دوماً إلى جحورهم خائبين. وعلى مدى 88 عاماً، لم تنقطع ترنيمة النضال، وبقيت راية الحزب الشيوعي العراقي خفاقة، تؤشر لمسار الخلاص من الإستغلال والفساد والعبودية، مسار حرية الوطن وسعادة الشعب، مسار إعمار ما خربته الحروب والنزاعات والقمع والإرهاب والفقر والتباين الطبقي والتمييز الطائفي والأثني، مسار تخليص المرأة من عبوديتها ومن تعرضها لأبشع أعراف القهر. ولعل أخر أبرز محطات هذا السفر الكفاحي الطويل، كان نجاح إنعقاد المؤتمر الوطني الحادي عشر للحزب، والذي أقر، فيما أقر من وثائق، ورقة “قدما.. نحو التغيير الشامل”، تلك التي شكلت بحق خارطة طريق، ليس للمناضلين الشيوعيين وعموم التقدميين، بل وايضاً لكل وطني، يصبو لعراق الحرية والعدالة الاجتماعية.

ماذا نعني بالتغيير؟

يستند تبني فكرة التغيير الشامل للارتقاء بالواقع، إلى اليقين من عدم وجود حل أخر غيره. وللتغيير شكلان مختلفان، فإما أن يكون مخططاً سواء في الإجراءات أو المواعيد، أو أن يكون عملية مستمرة وتدريجية، تشمل كل مفاصل الواقع المراد تغييره، بحيث يؤدي التراكم الكمي المتواصل ـ العفوي والارادي ـ إلى التغيير النوعي المرتجى.

ولهذا، جاءت دعوة الحزب للتغيير الشامل، بعد دراسة عميقة للأزمة العامة التي وقع بها وطننا، جراء فشل  منظومة الحكم القائمة على منهج البناء المكوناتي للدولة، في حل المشاكل المعقدة التي تعاني منها البلاد، والمتمثلة بالإستحواذ على المال العام، وتبديد ثروة العراق في أضخم عمليات فساد يشهدها تاريخه، وتغييب معايير المواطنة والعدالة والنزاهة، وتهديد وحدة الوطن وتمزيق الهوية الجامعة لأبنائه، وتخريب الاقتصاد الوطني، عبر إهمال مريع للانتاجين الزراعي والصناعي، وحرمان المواطنين من الخدمات الاساسية، وتدهور الواقع التعليمي والصحي، ووقوع ربع السكان تحت مستوى الفقر وربع أخر عند هذا المستوى المشؤوم، إضافة إلى عدم المحافظة على سيادة العراق واستقلاله وتغييب إرادته الحرة، هذه الأزمة التي لا يمكن الخلاص منها الا بتحقيق التغيير.

لماذا التغيير الشامل؟

تجيب الورقة، على هذا السؤال من خلال توضيح حالة الاستعصاء التي وصلت اليها العملية السياسية، بعد تواصل الفرز الطبقي، بين أقلية حاكمة تستحوذ على السلطة والمال والسلاح والإعلام، وتضم النخب الأوليغارشية وحلفاءها من الفئات والشرائح البيروقراطية والطفيلية والكومبرادور التجاري، وبين أكثرية محكومة تعاني من الفقر والحرمان والتهميش والقلق وغياب الأمن وعدم احترام القانون، وتضم باقي شرائح الشعب من العمال والفلاحين والطبقة الوسطى والبرجوازية الوطنية، وكل شغيلة اليد والفكر. وبالتأكيد، لايُعقل أن تتنازل هذه الأقلية عن إمتيازاتها، بالنصيحة والموعظة الحسنة، بل ينبغي أن تُجبر على ذلك، وإن بالطرق السلمية القانونية.

ما العمل؟

وفي الوقت الذي يدرك فيه الحزب، عدم امكانية تحقيق هذا التغيير الشامل بدون تغيير موازين القوى السياسية لصالح الأكثرية المُغيبة، دعت الورقة إلى العمل من أجل حشد طيف واسع من القوى السياسية والمجتمعية، من الشيوعيين والديمقراطيين وأنصار الدولة المدنية وتنسيقيات الحراك المدني والشعبي، وتوحيد صفوفهم للقيام بالنشاطات والفعاليات الجماهيرية، التي تضغط من أجل تحقيق مجموعة من المهام التي ستؤدي بالضرورة إلى التغيير الشامل.

ومن أبرز تلك المهام، الضغط للحيلولة دون إلقاء تبعات الأزمة الاقتصادية على الفقراء والمعدمين، وضمان تلبية احتياجاتهم المعيشية، وحصولهم على الخدمات الأساسية وفرص العمل والضمان الاجتماعي، وتحسين الخدمات العامة، عبر بناء منظومة صحية حديثة وتقديم خدمات الرعاية الطبية مجاناً، وتخصيص الموارد اللازمة لتطوير التعليم، ومعالجة أزمة السكن عبر استراتيجية اسكانية متكاملة، والدفاع عن حقوق المرأة ومكتسباتها، وضمان مساواتها واستبعاد التمييز ضدها، وإيلاء اهتمام خاص بالشباب، وضمان تمتعهم الكامل بالحقوق والحريات المكفولة لهم دستورياً في التنظيم والتعبير، وضمان حرية الثقافة والابداع، واحترام التعددية الفكرية والسياسية، ورعاية الثقافة والمثقفين، وأخيراً، الكشف عن قتلة المتظاهرين والنشطاء، ومن يقف وراء القتلة، وتقديمهم إلى القضاء لمحاكمتهم عن جرائمهم، وإعادة الاعتبار لشهداء الانتفاضة وتعويض أسرهم واسر الجرحى.

وعلى الصعيد السياسي المباشر، تدعو الورقة إلى النضال لإصلاح جهاز الدولة وترسيخ بنائه المؤسسي، بإعتماد مبدأ المواطنة ومعايير الكفاءة والنزاهة، ونبذ المحاصصة الطائفية والاثنية والتمييز، وتطوير آليات العمل الإداري، وإنهاء مظاهر الاستقطاب الطائفي والاثني، وتكريس الوحدة الوطنية، ومحاربة منظومة الفساد ومحاسبة الفاسدين، واسترجاع الأموال المنهوبة من قبلهم وإجراء محاكمات عادلة لهم، وضمان الأمن والاستقرار وحصر السلاح بيد الدولة وبمؤسساتها الشرعية، ونزعه عن الفصائل والجهات الخارجة عن القانون على اختلاف مسمياتها، وتطبيق قانون الأحزاب السياسية الذي يحظر على الاحزاب إمتلاك اجنحة مسلحة، واصلاح المنظومة الانتخابية بما يضمن انتخابات حرة ونزيهة ومتكافئة، وفي ظل قانون انتخابي عادل، واعتماد سياسة خارجية متوازنة وبعيدة عن سياسة المحاور، وتعزيز البناء الاتحادي وحل القضايا العالقة بين الحكومة الاتحادية والاقليم، واحترام حقوق الإنسان، وضمان الحريات الشخصية والعامة، وأخيراً النضال من أجل تبني استراتيجية تنموية مستدامة.

إلى العمل!

ولعل أفضل هدية يقدمها الشيوعيون وكل الديمقراطيين، للحزب والوطن، في عيد الربيع، عيد ميلاد الحزب الشيوعي العراقي، تتثمل في وحدتهم وتعاونهم، وتطوير كفاحهم وتمتين صلاتهم بالجماهير وتبني همومها العادلة، وتنويع أشكال فعالياتهم وإعتماد الصبر الثوري وإتقان فن سماع الأخرين، ركائزاً للنشاط بين الناس، وهذا ما تنغمر فيه منظمات الحزب في الوطن والغربة اليوم.

تباركت أيها الحزب، فمذ مَلّكتنا الدرب نحو الضياء، حيث يستعيد البشر آدميتهم، بقيتَ مشرقاً فينا، وستبقى لوطننا العذب، معلماً وربيعاً دائماً، ولنا فرحاً ومعّلما.

عرض مقالات: