اخر الاخبار

في الأيام الأخيرة أوضح لي أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب اليسار الاستراتيجية الحالية للحزب. الهدف الرئيسي هو الحفاظ على تماسك الحزب، وتقليل الخسائر في اتجاهات مختلفة، وتعديل الموقف من الحرب، انسجاما مع تغير الحالة المزاجية للسكان منها (الحرب في أوكرانيا). لقد تم إبراز القضايا الاجتماعية بشكل مقصود لوجود إجماع كبير بهذا الشأن، على عكس الموقف من الحرب.

قد يبدو هذا منطقيا بشكل غير عادي، إذا كانت سفينة الحزب تسير في بحار هادئة وليس عليها سوى تحمل القليل من العواصف، مهما كانت عنيفة. من الممكن الإبحار مع الريح وعدم اتخاذ قرار. كتب برتولد بريشت: “لكن الظروف ليست على هذا النحو”.

في المقر الرئيسي لحزب اليسار المسمى “بيت كارل ليبكنشت”، يقابل جميع المشاركين في اجتماع قيادة الحزب مقولة كارل ليبكنشت: “بالطبع، الحماس وحده قادر على تحقيق أشياء عظيمة، والقناعة والثقة ضرورية؛ وكذلك الوضوح حول المسار والهدف”. كل هذا مفقود في سفينة حزب اليسار.

في الأوقات المضطربة، لا يمكن تجنب المواقف الواضحة. لا يمكنك أن تتبع ما يحدث فقط، بل عليك أن تقود الى الطريق، واثقا من أن الآخرين سيتبعونك. لا يمكنك محاولة التقليل من خسارة الانصار، ولكن عليك أن تصبح عامل جذب قوي من أجل كسب أنصار جدد، لأنك تلهمهم بلغة واضحة ومواقف مقنعة. يمكن أن يصبح القليل منهم كثيرا إذا تم إرسال رسائل صحيحة بطريقة جديرة بالثقة ومستدامة، على أساس سياسة صحيحة وواثقة.

إذا قرأت أحدث وثيقة صادرة عن آخر اجتماعات قيادات الحزب ورؤساء كتله في البرلمان الاتحادي وبرلمانات الولايات في مدينة لايبزيغ، فإنك تميل إلى الموافقة بطريقة أو بأخرى على كل شيء. لكن يجب أن تقاوم هذا الإغراء. ان مشكلة الحزب ليست في اتخاذ الكثير من المواقف الصحيحة، بل في اتخاذ مواقف خاطئة أو غير واضحة تماما بشأن بعض القضايا. ولسوء الحظ لا يمكن مقارنة هذه المواقف بعضها البعض حسابيا. بالأساس يتساءل المواطنون، الناس العاديون: ما رأيكم في القضايا التي تمثل بالنسبة لنا أسئلة الساعة الحارقة؟  كيف تتخذون المواقف، ليس عندما يكون البحر هادئا والنسيم معتدلا، بل في اوقات العاصفة؟ لماذا أنتم مترددون وتفتقرون الى الموقف المتميز، عندما يتعلق الأمر بإيجاد المسار ضد كل الأعاصير؟ اين تقفون، عندما يتعلق الامر بكل شيء؟

جاءت العاصفة الأولى في عام 2015. كان ذلك عندما حدثت القطيعة الأولى مع الكثير من العاملين بأجر، بما في ذلك النقابيون. حدث هذا لأن الحزب، في خريف عام 2015، عام تدفق المهاجرين، اعطى انطباعا بأن الحدود المفتوحة هي الحل. في حين أن الخوف من المنافسة القوية، وإعادة التوزيع على حسابهم، وانتشار العنف، كان سائدا في الأوساط الدنيا من الفئات الوسطى، وكانت الحماية مطلوبة، كان العديد من اليساريين يفتقرون إلى التحليل الماركسي: ان هيمنة رأس المال تقوم على المنافسة بين العمال الاجراء. فرق تسد! هذا التنافس والانقسام وما يصاحبه من قلق لا يمكن اهماله. والمطلوب النضال في سبيل تنظيمه على أسس تضامنية. الهجرة ليست جيدة ورائعة لذاتها، وسياسة حقوق الإنسان ليست مجردة، بل تتطلب تسوية التناقضات التي تخلق الظروف السائدة. لم يأخذ موقف اليسار على محمل الجد من وجهة نظر الذين يتنافسون على الوظائف والإسكان والمزايا الاجتماعية. ببساطة لم يكن هناك احترام. ان التضامن مع الذين يبحثون عن وطن جديد هربا من الحرب والبؤس ومع الذين موجودون في منازلهم كلّ لا يتجزأ.

القطيعة الثانية جاءت مع الوباء. نحن نعلم اليوم أن إغلاق رياض الأطفال والمدارس كان خاطئا تماما. لقد عانت منه، بشكل خاص، الفئات الأضعف في المجتمع. نعلم أيضا أن هناك مخاوف مشروعة بشأن اللقاحات. لم ينجح الحزب في القيام بالأمرين معا وقت واحد: أخذ المخاوف والتناقضات على محمل الجد وأن يكون صوتا واضحا لتطوير نظام رعاية صحية قائم على التضامن. كان هناك نقص في السياسة.

جاءت القطيعة الثالثة والراهنة مع الحرب في أوكرانيا أوائل عام 2022. ومرة أخرى، كان الافتقار إلى ما يميز اليسار. ان قرار مؤتمر الحزب في صيف عام 2022، والذي يجب على الجميع الالتزام به، كان قرارا خاطئا. ويفتقر إلى التحليل الماركسي الناقد للإمبريالية. في هذه الحرب، تلتقي إمبراطوريتان، إحداهما قوية والأخرى ضعيفة جدا، وتعتبر نفسها مهددة. لا تتناول وثيقة لايبزيغ أيضا تاريخ ما قبل الحرب. يبدأ هذا التاريخ حيث تم تجاوز الخط الأحمر لحماية المصالح الأمنية لروسيا من خلال توسع الناتو. الحرب التي بدأتها روسيا هي نتيجة رهيبة لهذا التجاوز. السياسة الأمريكية، أساسا هي التي خلقت الظروف لهذه الحرب، تماما كما أنها تزيد احتمال نشوب حرب في تايوان. تريد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي تحقيق السلام من خلال تفوقهما. لكن هذا سيؤدي إلى المزيد والمزيد من الحروب.

بالإضافة إلى ذلك، لا يدعو إعلان لايبزيغ إلى إنهاء عمليات تسليم الأسلحة المتزايدة إلى أوكرانيا ولا يعارض الحرب الاقتصادية ضد روسيا، ولكنه يعتمد المفاوضات.

مرة أخرى، يتم تجنب التناقضات الحقيقية، من خلال  تجنب التحليل الواضح: إذا كان الهدف الرئيسي للحرب من وجهة النظر الغربية، في هذه الاثناء، شل روسيا كقوة جيوسياسية، وتسليح أوكرانيا هو الوسيلة للقيام بذلك، إذن يجب في رأيي أن نعارض هذا التسليح، أي ضد الاستمرار في تزويد أسلحة أثقل من أي وقت مضى، وبلا نهاية. وضد دوامة العقوبات التي تؤذي بشدة السكان في روسيا، وكذلك سكان الاتحاد الأوروبي.

عندما تجعل أوكرانيا نفسها وسيلة حرب ضد روسيا، فإن السؤال ما حجم الدعم الذي يجب أن تحصل عليه؟ يعتمد هذا اولا، على الرغبة في دعم أهداف الحرب الغربية من عدمها. ان استمرار هذه الحرب “بكل الوسائل” هو الخيار الأسوأ.

بالنسبة لفرديناند لاسال (من مؤسسي الحركة العمالية الألمانية – المترجم)، يبدأ كل عمل ثوري بالقول بصراحة ووضوح ما الذي يحدث: في هذه الحرب، لم يتحدث حزب اليسار بوضوح في تصريحاته منذ البداية عن تاريخ ما قبل الحرب، ولم يتخذ موقفا صارما ضد ديناميكيات التصعيد. لم يؤكد باستمرار على أولوية المفاوضات ولم يقل صراحة أن نتيجة للمفاوضات سوف لن تكون العودة إلى حدود أوكرانيا قبل عام 2014. كان الحزب تابعا في النهاية للاتجاه السائد.

دعونا لا نخدع أنفسنا: إذا استمرت هذه الحرب لفترة طويلة، فإن الحماية الفعالة للعاملين بأجر، والتحول الاجتماعي البيئي والديمقراطية الاقتصادية والمجتمع المرن هي مجرد عبارات فارغة. بالإضافة إلى ذلك، إن خطر التصعيد النووي يزداد مع مرور كل يوم. لا يمكن، في زمن الحرب، الفصل بين قضايا الحرب والسلام والقضايا الاجتماعية. لذلك، يجب على حزب اليسار إدانة ارسال الأسلحة الهجومية الى أوكرانيا، واستمرار الحرب الاقتصادية بكل قناعة ووضوح.

يخشى الكثيرون في قيادة حزب اليسار مواجهة اليمين والتيار السائد بمفردهم. في لحظة الحقيقة، في لحظة التصعيد السياسي الحاد، يفتقر الى وضوح التحليل الديالكتيكي، والشجاعة في الوقوف بمفردك. لكنك تصبح تابعا للكتلة الحاكمة لا ضرورة له بالنسبة لهذه الكتلة، ولا ضرورة له بالنسبة للمواطنين، ولا ضرورة له حتى بالنسبة لأولئك الذين يرون أنفسهم يساريين.

الموقف المتفرد لليسار في القضايا الراهنة، يجب ان لا يقود الى الانغلاق إذا ركز الحزب على القضايا الملتهبة، إذا بقيت عيونه مفتوحة على بوصلة التوجه نحو العاملين بأجر، نحو تحالف متضامن من الوسط إلى الفئات والشرائح السفلى.

إنه السؤال الاجتماعي القديم “من المستفيد؟” الذي يربط اليسار بواسطته بين قضايا البيئة والحركة النسوية والديمقراطية والسلام، وقضايا الإنسانية وحقوق الإنسان، والذي يضمن عدم إساءة استخدامه لإضفاء الشرعية على الحروب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدكتور ميشائيل بري هو رئيس المجلس الاستشاري العلمي لمؤسسة روزا لوكسمبورغ.

* والترجمة هذه لمساهمته في مناقشة “كيف نطور سياسة ماركسية اشتراكية معلّلة”، التي جرت منتصف كانون الأول 2022، بمشاركة عدد من مفكري اليسار الألماني في مدينة فرانكفورت. نشرت المساهمة في موقع “شيوعيون” في 6 كانون الثاني 2023

عرض مقالات: