اخر الاخبار

أصول نمط الإنتاج الرأسمالي The origin of capitalist mode of production:

إنها أولا الانفصال بين المنتجين ووسائل الإنتاج. وهي من ثم تجمع وسائل الإنتاج هذه في صورة احتكار بين أيدي طبقة اجتماعية واحدة، هي الطبقة البرجوازية. وهي أخيرا ظهور طبقة اجتماعية أخرى، لم يعد لها من مورد لتعيش، بعد انفصالها عن وسائلها في الإنتاج، غير بيع قدرتها على العمل (قوة عملها) إلى الطبقة التي احتكرت وسائل الإنتاج.

لنتوقف هنا عند كلا من أصول نمط الإنتاج الرأسمالي هذه، وهي في الوقت ذاته الخصائص الأساسية للنظام الرأسمالي ذاته.

أولى هذه الخصائص: انفصال المنتج عن وسائله في الإنتاج. إنها الشرط الأساسي لوجود النظام الرأسمالي. وهي أقل الخصائص وضوحا في الأذهان. لنأخذ مثلا قد يبدو لنا ضربا من المفارقة، مجتمع مطلع القرون الوسطى، الذي يتصف بالقنانة.

من المعلوم أن جمهرة المنتجين-الفلاحين كانت في هذا المجتمع أقنانا مرتبطين بالأرض. غير أنه عندما يقال إن القن مرتبط بالأرض إنما يتضمن ذلك أن الأرض مرتبطة بالقن، فنحن أمام طبقة اجتماعية تعتمد دوما على قاعدة لسد حاجاتها، لأن القن كان يتصرف بمساحة من الأرض تكفي ليتمكن عمل يعتمد على ذراعين، ولو بوسائل بدائية، من سد حاجات أسرة. نحن هنا لسنا أمام أناس محكوم عليهم أن يتضوروا (يموتوا) جوعا إن لم يبيعوا قوة عملهم. في مثل هذا المجتمع ليس ثمة إكراه اقتصادي على العامل لتأجير ذراعيه، ليعرض على الرأسمالي بيع قوة عمله.

وبعبارة أخرى: في مجتمع من هذا النوع لا يمكن للنظام الرأسمالي أن ينمو. وثمة تطبيق حديث لهذه الحقيقة العامة، وهو الأسلوب الذي اتبعه المستعمرون في إدخال الرأسمالية إلى إفريقيا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

كيف كانت ظروف معيشة سكان سائر البلدان الإفريقية؟ كانوا يمارسون تربية الحيوانات وزراعة الأرض، زراعة بدائية أو غير بدائية تبعا للمنطقة، إلا أنها تتصف في جميع الأحوال بوفرة نسبية في الأراضي. لم يكن ثمة ندرة في الأراضي في إفريقيا، بالعكس كان هناك سكان يتصرفون، بالنسبة لمساحة الأرض، باحتياطي غير محدود عمليا. ولا شك في أن الحصول على هذه الأرض وبوسائل الزراعة البدائية جدا كان ضعيفا، ومستوى المعيشة متدنيا جدا، غير أنه لم يكن ثمة إكراه مادي يدفع هؤلاء السكان إلى الانتقال إلى العمل في مناجم أو مزارع أو معامل المعمر الأبيض. وبعبارة أخرى: لو لم يغير النظام العقاري في إفريقيا الاستوائية وإفريقيا السوداء لما كان ثمة إمكان لإدخال نمط الإنتاج الرأسمالي إليها. وكان لا بد، ليمكن إدخال نمط الإنتاج هذا، من فصل جمهرة السكان السود، بصورة جذرية وبوسائل إكراه غير اقتصادية، عن وسائل معيشتها العادية. أي أنه كان لا بد من تحويل جزء كبير من الأراضي بين عشية وضحاها إلى أرض مملوكة للدولة المستعمِرة أو إلى ملكية خاصة للشركات الرأسمالية. كان لا بد من وضع السكان السود في أراضٍ، في محتجزات (كما سموها بوقاحة) لم تكن على سعة تكفي لتغذية سكانها. وكان لا بد أيضا من فرض ضريبة على الرأس، أي ضريبة تسدد بالنقد على كل فرد من السكان، مع ان الزراعة البدائية لم تكن تدر دخولا نقدية.

عن طريق هذه الضغوط بوسائل غير اقتصادية أمكن إلزام الإفريقي بأن يعمل كمأجور، ولو لشهرين أو ثلاثة أشهر في السنة، ليكسب مقابل هذا العمل ما يستطيع أن يسدد به الضريبة ويشتري ما يسدد به نقص الغذاء، الذي لم يعد باستطاعته الاستمرار في الحياة بدونه، بسبب عدم كفاية الأراضي التي بقيت تحت تصرفه.

وقد اتبعت هذه الطريق بنفس المقياس في بلاد كأفريقيا الجنوبية، كما في الكونغو البلجيكي سابقا، حيث أدخل نمط الإنتاج الرأسمالي على أوسع نطاق، واقتلع جزء كبير من السكان السود من جذورهم وطردوا ودفعوا خارج نمط العمل والحياة التقليديين.

ولنشر بشكل عابر إلى النفاق الآيديولوجي الذي اقترن بهذه الحركة، وشكاوى المجتمعات الرأسمالية ورجال الإدارة البيض من أن السود “تنابل”، لأنهم لا يريدون أن يعملوا حتى لو أعطوا إمكانية الحصول في المنجم أو في المعمل على عشرة أضعاف ما كانوا يكسبونه بشكل تقليدي من أراضيهم. لقد سُمعت هذه الشكاوي تتكرر ـ بالنسبة العمال الهنود والصينيين أو العرب قبل عدّة عقود. كما سُمعت ـ وهذا ما يثبت المساواة في الجوهر بين جميع العروق البشرية- بالنسبة للعمال الأوروبيين من فرنسيين وبلجيكيين وإنجليز وألمان في القرن السابع عشر أو الثامن عشر. إن المسألة لا تعدو هذه الحقيقة: ما من إنسان يحب، في الأحوال العادية، بحكم تكوينه الطبيعي والعصبي، أن يحبس مدة ثمان أو تسع أو عشر أو أثنتى عشرة ساعة في اليوم في معمل أو مصنع أو منجم. ولا بد فعلا من قوة، من ضغط غير عاديين تماما واستثنائيين للوصول إلى شخص لا يعتاد هذا العمل الشاق وإجباره على القيام به.

أما الأصل الثاني فهو: تركز وسائل الإنتاج في صورة احتكار بيد طبقة اجتماعية واحدة، هي الطبقة البرجوازية. إن هذا التركز ما كان يمكن أن يتحقق عمليا لو لم تكن ثمة ثورة مستمرة في وسائل الإنتاج، لو لم تصبح هذه الوسائل أكثر تعقيدا، وأغلى ثمنا باطراد، على الأقل فيما يتعلق بالحد الأدنى من وسائل الإنتاج لإمكان البدء بمشروع كبير (نفقات التأسيس الأولى).

لقد كان في الطوائف (الأصناف) الحرفية ومهن القرون الوسطى استقرار كبير في وسائل الإنتاج. فأنوال النسيج تنتقل من الأب إلى الابن، ومن جيل إلى جيل. كانت قيمة أنوال النسيج هذه منخفضة نسبيا، أي أن كل عامل في المهنة كان في وسعه أن يأمل بالحصول على ما يبادل قيمة هذه بعد عمل عدد من السنوات. إن إمكانية تشكل احتكار ظهرت من الثورة الصناعية، التي حركت نموا غير منقطع، متزايد التعقيد، في المكننة، مما يعني وجوب توافر رؤوس أموال أكبر فأكبر ليمكن البدء بمشروع جديد.

ومنذ ذلك الحين يمكن القول إن الوصول إلى ملكية وسائل الإنتاج يصبح مستحيلا بالنسبة للأغلبية الساحقة من الأجراء والمستخدمين، وأن ملكية وسائل الإنتاج أصبحت احتكارا في أيدي طبقة اجتماعية، تلك التي تتوافر لها رؤوس الأموال، واحتياطات من رؤوس الأموال، والتي تستطيع أن تحقق تراكم رؤوس أموال جديدة لمجرد أنها تملك رؤوس أموال. أما الطبقة التي لا تملك رؤوس أموال فمحكوم عليها، بحكم وضعها هذا، أن تبقى على الدوام في حالة واحدة من العوز ومكرهة على العمل لحساب غيرها.

الأصل الثالث: ظهور طبقة اجتماعية ليس لها من وسائل لسد حاجاتها إلا بيع قوة عملها لأنها لا تملك من الثروات إلاّ ذراعيها، وهي في الوقت ذاته حرة ببيع قوة عملها، فتبيعها للرأسماليين مالكي وسائل الإنتاج. ويسجل ذلك ظهور الطبقة البروليتارية الحديثة.

إننا أمام عناصر ثلاثة تتداخل وتتضافر. فالبروليتاريا، هي الشغيل الحر؛ إن هذا خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء بآن واحد، بالنسبة لأقنان القرون الوسطى: خطوة إلى الأمام لأن القن لم يكن حرّا (كان القن ذاته خطوة إلى الأمام بالنسبة للرقيق)، وما كان يستطيع التنقل بحرية، وخطوة إلى الوراء لأن البروليتاري، خلافا لما كان عليه القن، هو “حر” أيضا، أي أنه محروم تماما من الوصول إلى وسائل الإنتاج.

عرض مقالات: