اخر الاخبار

في العادة، حين نقرأ التاريخ، نلاحق أثر الملوك والفلاسفة والثورات، نتابع صعود الإمبراطوريات وانهيارها، ونفتّش عن الأفكار الكبرى التي غيّرت العالم. لكن نادرًا ما نسأل: ماذا كان الناس يأكلون؟ ومن زرع وأطعم واحتكر؟

يأتي الصحفي والمؤرخ البريطاني توم ستاندج ليقلب هذه المعادلة، ويقترح زاوية نظر غير مألوفة: أن الطعام، وليس فقط الفكر أو العنف، هو الذي حرّك عجلة الحضارة. في كتابه “An Edible History of Humanity”، نكتشف أن التاريخ البشري ليس فقط سلسلة من المعارك والأفكار، بل أيضًا تاريخ جائع، يُروى من خلال الحقول والمطابخ والأسواق.

الطعام كأداة لبناء السلطة

يبدأ ستاندج من لحظة التحول الحاسمة في حياة الإنسان: الانتقال من الصيد والجمع إلى الزراعة. هذا التحول، بحسب المؤلف، لم يكن مجرد نقلة طبيعية نحو الاستقرار، بل ثورة غذائية مهّدت لظهور السلطة السياسية. فقد مكّن فائض الطعام من قيام المدن، وتقسيم العمل، وظهور النخب. يقول ستاندج:

“من يزرع، يتحكم؛ ومن يخزّن  يحكم.”

في مصر القديمة، كانت الدولة تتحكم بصوامع القمح وتوزيعه، مما رسّخ مركزية السلطة. في الصين، كان إنتاج الأرز أساسًا لبنية المجتمع، بينما اعتمدت الإمبراطورية الرومانية على سياسة “الخبز والسيرك” لضمان ولاء الجماهير. هنا، يصبح الطعام وسيلة حكم قبل أن يكون سلعة.

الاستكشاف والاستعمار: حين تغيّر الطعام ملامح الجغرافيا

مع بروز أوروبا كمركز استكشافي في القرن الخامس عشر، لم يكن الذهب وحده هدف الرحلات البحرية، بل التوابل والسكر والذرة والبطاطا. يوضح ستاندج كيف أن الطعام كان من المحركات الخفية للاستعمار. على سبيل المثال، كانت زراعة قصب السكر في الكاريبي تتطلب أعدادًا ضخمة من العمال، مما ساهم في تغذية تجارة العبيد عبر الأطلسي.

كذلك، غيّرت البطاطا وجه أوروبا الزراعي؛ إذ قدمت محصولًا عالي السعرات وسهل الزراعة، وأسهمت في نمو سكاني واسع في القرن الثامن عشر، لكنها في ذات الوقت كانت وراء مجاعة إيرلندا الكبرى (1845–1852)، حين أدى الاعتماد الكامل على هذا المحصول إلى كارثة إنسانية.

الثورات تبدأ حين ينضب الخبز

لم تكن الأفكار وحدها وراء الثورات. كثيرًا ما كان الجوع هو المحرّك الأول. في الثورة الفرنسية، سبق سقوط الباستيل ارتفاع أسعار القمح. وفي روسيا القيصرية، ساهمت أزمة الغذاء في إشعال الثورة البلشفية. يكتب ستاندج:

“حين يعجز الناس عن إطعام أطفالهم، لا يحتاجون إلى نظريات ليسيروا إلى الشوارع.

الطعام في العصر الحديث: من الزراعة إلى الجيوسياسة

مع الثورة الصناعية، دخلنا عصر الإنتاج المكثف للغذاء. ظهرت الأسمدة الكيميائية، وانتشرت المحاصيل المعدلة وراثيًا، وتحول الغذاء إلى سلعة عالمية مرتبطة بالأسواق والبورصات. لكن هذه الوفرة الظاهرية جاءت على حساب العدالة الغذائية، حيث باتت بعض الدول تعتمد كليًا على استيراد الطعام، مما يجعلها رهينة للتقلبات العالمية.

اليوم، كما يشير ستاندج، تتحكم حفنة من الشركات متعددة الجنسيات في سلاسل الإمداد الغذائي، وتُستعمل الحبوب والنفط كأدوات ضغط اقتصادي.

يكشف “تاريخ للإنسانية قابل للأكل” أن الطعام ليس مجرد حاجة بيولوجية، بل قوة محركة للتاريخ. في كل لقمة نأكلها قصة عن الأرض والسياسة والسلطة، وعن الإنسان الذي لطالما ظن أنه يأكل الطعام، بينما الحقيقة أن التاريخ يأكله في المقابل.

عرض مقالات: