لا أتذكر كيف تعرفت عليه، لكني أعرف متى. كان ذلك في أواخر عام 1980، حين إلتحقت بالفتية الباحثين عن مطلع للشمس في أعالي الجبال. وكان قد سبقني إلى هناك بعد أن أنهى دراسته العليا في موسكو، فنمت بيننا بهدوء صداقة عميقة، ربما إستجابة لما جمعتنا من هموم مشتركة، وربما أيضا لألفته العصّية على الغياب، أو ربما لما كشفته لي الأيام الحبيبة والموحشة، رغم قسوتها، من خصال، جمعت بين حكمة الصبور وتمرد الشباب، بين إندفاع الثوري ودأب المفكر، بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، على حد تعبير غرامشي.

 وإمتدت صداقتنا لأكثر من أربعين عاماً، وصارت لي في أحايين كثيرة ملاذأً من الوجع الشمولي، الذي بات لصيق الروح في فصل الملهاة الاخير، وعطرا إتكأ عليه فأستريح، أو محطات فرح في مسار الحزن المستديم.. صداقة لم يعد ممكنا بدونها أن أبصر في العتمة الخانقة، أو أن أستعيد روحي من الشتات المؤلم، أو أمنع الخبل من أن يستوطن نثار العقل.

وطيلة هذه السنين، عرفت صاحبي، متميزاً في ثقافته العميقة والمتنوعة، التي دفعته للمشاركة في تغيير مجتمعه من خلال نشاط فكري وإرتباط نقدي بمحيطه الاجتماعي، وعبر طرح الجديد من ضفاف مختلفة وإجتراح سلوك إنساني متميز، وصولا للدور التأثيري في نفوس غيّب وعيها إلى حين، وعبر الإبحار في مجموع القيم الجمالية والأخلاقية والثقافية والسياسية لهذه الجموع. كان إنهيار إحدى تجارب الحلم موجعاً لنا، وفيما بحث البعض عن ملاذات في ضفاف بعيدة، أو رفض آخرون أن يروا الحقيقة في النظر، تعلمت من صديقي أن الحلم لن يموت، وأن شرط الوصول اليه، أن يبصره المرء بقلب سليم. 

كان صاحبي من بين نخبة – قليل عديدها – تعذبت بالواقع الثقافي المتخلف والذي سرت عدواه من عامة الناس لتنخر في الكثير من طلائعهم، فآثر الوحدة الجارحة، سلاماً مع الأخر، وقادته تلك الوحشة إلى زوايا معرفية، وإلى تحديق في تفاصيل الواقع وتحليق في فضاءات التجديد، ذلك الذي قد يتاخم التمرد، منفصلاً عنه بأسيجة إنتماء صوفي لا يشكك بصدق ما قاله ألبرتي من “إن المنفى قصة عابرة”، هازئاً بخيامه الغجرية المتنقلة تحت أغصان الشجر وبين صخور السفوح وعاقول البوادي. فعاش فيها بالقلم وهو ينساب على الورق في مسعى للتخفيف عن هموم ثقال، لم تسببها مرارة الخيبات ولا مخاطر الكفاح، بل نقد المخلّص، ذلك النقد الذي صار كالزمن في قسوته على الماضي وحنوه على الجديد، وكالشاعر في دهشة إكتشافه للانهاية الأشياء. وكما إخترق صديقي لطفي ظلمة الزنازين في الحلة ونقرة السلمان وخلف السدة، إخترق بلغته المترعة بالحساسية بحيرات البحث الفكري الساكنة.

كنت كلما قرأت له، تذكرت ما قالته نادين جورديمر الحائزة على جائزة نوبل للأداب عام 1991، بأن الكاتب ما هو إلا شاهد على ما يحدث في وطنه، فكلما كان أصيلاً وواعيا كانت شهادته أصدق وأكثر قيمة. فلم يكن الصديق لطفي يوما متلقيا جامداً للأحداث والتطورات، بل متجاوزاً نشطاً لمستوى رد الفعل وصولا لإجتراح الفعل المؤثر والمغيّر، وممثلا ً للمثقف العضوي حيث يتلازم المفكر الذي يقدم المعرفة مع المثقف الذي يتبنى تلك المعرفة ويناضل من أجل أن تفتح للوعي الاجتماعي كوى في العتمة!

شكراً يا صاحبي على كل ما فعلته من أجلنا، كان الرحيل مبكراً يا أبا هندرين، فأفجعني حتى إستعصت في مقلتّي الدموع. كنت اوطّن النفس للقياك حال عودتي من بغداد، لكنك أخلفت موعدك معي، وأنت الوفي دوماً، وتركتني في شيخوختي ومرضي، وحيداً أنتظر لقياك.

سأضع على قبرك في هذا المنفى الموحش قلبي، زهرة وفاء، شارة فخر بك، لي ولعراق لم يف أبناؤه حقهم في أن يجدوا في أرضه، التي ضحوا من أجل حريتها، لحداً ينامون فيه بسلام.

عرض مقالات: