أكثر ما يواجهنا  في الفكر العالمي اليوم، في بداية العقد الثالث من القرن الحادي و العشرين  كيف ننظر  نحو التمييز بين عشرات المصطلحات  الفكرية و الفلسفية والأدبية و الفنية المتعلقة بالحداثة و أنواعها و أنماطها و مراحلها، و قد باتت شائكة ، و ملتبسة ؛ خاصة بالنسبة لنا في المنطقة( العربية)  التي تختلف  حضارياً ثقافياً و منهجياً، في  استيعابها لتلك المصطلحات و متابعة جذورها اللغوية و استخداماتها الدلالية و الاستعمالية  و مواضعاتها التاريخانية زوالعلمية المناسبة لمدلولاتها الفكرية الفلسفية  المخفية، وبما فيها قدرتنا على فهم ما تقدمه لنا  تلك من إدراك للممارسات النقدية التي تحقق طفرة حداثوية في الاختلافات الفلسفية دون إراقة إنفعالات شعبوية تضر بوعي تعدد المراحل  و تداخلاتها، و تمثل إشكالية المأزق النقدي الواجب إزالته  لجملة من إرث الحداثة الغربية التي لازالت تعيش في مواجهة الانسداد التاريخي للفكر الغربي لما بعد الحداثة  فيما يطلق عليه ماندل بنظام الرأسمالية المتأخرة الذي يقوم على المزاوجة  بين مراحل التطور التكنولوجي و مراحل تطور النظام الرأسمالي   فهي لازالت واحدة  من المظاهر الخلاقة التي انتجتها العقلانية الغربية، فقد اتسمت مرحلة ما بعد الحداثة  من الناحية الإبستمولوجية بأنها مرحلة قامت على نقد  مرحلة  الحداثة  بكل  مشتملاتها و كل تبعاتها، لدرجة يمكننا أن نقول إنها جاءت بإسهام فكري على مستويين، نقد لما هو قار في فكر الحداثة أو محاولة لوضع البديل المتجاوز  للحداثة، و يتماشى مع المتغيرات التي أحدثتها مرحلة ما بعد الحداثة، هذا المنظور الصعب بالنسبة لنا في التفرقة ليس في المصطلحات الجاهزة، إنما في ربكة كيفية تكون فاعليتها، و في أي سياق يمكنها العمل به، بيد إننا  سنشاهد إن ما بعد الحداثة  أخفقت في أن تخلق مبررات لها ، ربما لكونها  كما يعبر ديفيد كارتر  عن مصطلح ما بعد الحداثة  إنه من الصعب التوصل لاتفاق النقاد حول مجموعة المعاني التي يقدمها هذا المصطلح و هذا ما هو ملموس لدينا في الجانب الابستمولوجي الذي يعد الركيزة الأساسية التي تعتمد عليها الممارسة النقدية ، و كان ظهورها  بالطابع التشاؤمي العدمي في سلسلة من الاقصاءات غير البناءة  من أهم السلبيات التي وجهها ما بعد الحداثنين لما بعد الحداثة،  ترك آثاره المباشرة، فيما يتعلق بعلم الاجتماع و النظرية  السيسيولوجية عن طريق ما قام به جان بوديار (1929-2007) الفيلسوف و عالم الاجتماع الفرنسي بإطلاق مقولته بموت الاجتماعي و فناء النظرية و استبدال العلاقات الاجتماعية  للمجتمعات بعلاقات افتراضية  مما يعني انتفاء اي دور لعلم الاجتماع، لهذا ظل ذلك  المأزق النقدي الذي لم يفعله منظرو ما بعد الحداثة، بعد أن صارت التساؤلات  تطرح  حول فكرة أن نغير فلسفة منظري (ما بعد الحداثة )  من جوهرها الرومانسي التشاؤمي الذي يعتبره منظرو ما بعد الحداثية، بأنه كان يعبر عن فترة  تاريخية  محددة  استهلكت بلاعقلانيتها  وبلا صرامتها أو تراخيها في الرؤية  المنهجية، و استنفذت أغراضها بكفها عن  الممارسات لنقدية التي اتسمت بها الخصائص  العامة المميزة  لفكر ما بعد الحداثة بصورة لافتة، و تجاوزها  نحو العبور بالعالم لمرحلة  تاريخية مخصوصة اصطلح عليها ( ما بعد الحداثة ) أما منظرو (ما بعد الحداثية) الذين تمسكوا بنقد كل منجزات ما بعد الحداثة، فقد أسسوا  لموقف نقدي مميز، لأن مصطلح ( ما بعد الحداثية) يشير  بصورة عامة إلى شكل من أشكال الثقافة المعاصرة  بخلاف ما بعد الحداثة، و يقول المفكر الماركسي البريطاني المعاصر تيري إيغلتون في كتابه ( اوهام ما بعد الحداثة ) وما بعد الحداثة  أسلوب في الفكر  يبدي ارتياباً بالأفكار و التصورات  الكلاسيكية  لفكرة الحقيقة، و العقل   و الهوية و الموضوعية، و التقدم أو الانعتاق الكوني، و الأطر الأحادية  و السرديات الكبرى و لكي نعي إن ( الحداثة) لازالت مستمرة، بعدم اكتمالها الأدائي بقول هابرماس في خطابه عام 1980 بسبب الارتباك النقدي لمفاهيم غامضة جاءت كلها لتدل على نفاذ صلاحية تلك الحداثة التي ابتدأت  من عام 1850  على يد كبار الفلاسفة كماركس ودارون و فرويد و كومت و غيرهم و شملت كذلك الجوانب الأدبية و الفنية بصورة عامة التي شهدت ثورة في نصف القرن الماضي ( النظرية الأدبية  ديفيد كارتر) لكي  نفهم  كيف أدى المأزق النقدي لما  بعد الحداثة التي هاجمت الحداثة التنويرية و نادت بما بعد التنويرية هذا المأزق النقدي المفترض ان تمارسه كما وعدتنا في نقدها للسرديات الكبرى مثلاً على يد ليوتار  بالتعجيل  في طي صفحتها  الأخيرة التي أثارت جدلاً واسعاً، و المراهنة على استمرارها من عدمه، و رفع تأثيرها اللاعقلاني عن كاهل العالم،اي الافتقار  للمعايير العلمية وبالتالي افتقارها للمصداقية، بينما  يرى  باومان في علاقة ( ما بعد الحداثية ) للمناهج السسيولوجية  إن الوصول  لمرحلة ما بعد الحداثة له تبعات  بعيدة  المدى و شديدة التأثير، وبمجيء عقد الثمانينات من القرن العشرين، الذي دشن فكر ما بعد الحداثة  باللاعقلانية و التخلي عن المنهجيات، وإعادة المنظور الرومانسي للعالم والاجابة عن سؤال: هل حقاً حدث ذلك أم التسرع  في اطلاق  مصطلح ( ما بعد الحداثة )  و تكريس الأساليب ما بعد الحداثية هو مجرد أوهام؟ علينا التمييز أولاً بين( ما بعد الحداثة) و (ما بعد الحداثية ) في أيهما كان امتداداً منهجياً للحداثة ؟ و أيهما اتسم بطابع التشاؤمية العدمية و رفض إزالة المأزق النقدي؟ كي نصل إلى مقولة موت الاجتماعي لبوديار و مناقشة التكهنات النقدية للمجتمعات الافتراضية البديلة ( فولر و لوري و شيمبري) تيري إيغلتون يتهم  الطرفين، ليس بسبب التباس المصطلح و تقارب التواريخ و إسهامهما في البدايات، و بالتالي بوجود المغالطات  و تأثير التناقضات في استيعاب مفهوم ( الحداثة) التي ركز الفريقان على استهداف الحداثة التنويرية فيها، ربما سبقت  ما بعد الحداثة بخطوة في كونها إحدى العوامل المحفزة  لما يعرف بالتحول  اللغوي  في العلوم الاجتماعية حيث اعتمد ذلك التحول  على فكرة إن اللغة  تشكل فهمنا  للعالم.

عرض مقالات: