النص الابداعي بنية تمتلك مكوناتها الداخلية تبعاً لرؤية الكاتب، وان كل ما يطرحه فيها لا بد ان يؤكد او يرفض شيئا ما. إن الموضوع حتى وان ظل ضمن إطار عمله في المطلق فان ما يطرحه لا بد ان يتاثر بالظروف المحيطة به بمختلف انواعها التي كانت سائدة في فترة الكتابة، فضلا عن الفكرة التي يحتويها النص فلا يمكن ان تكون مهما توغلت في خيالها وغرائبيتها سوى اشارة يوجهها الكاتب في إطار الرؤية الحقيقة للواقع وان التداخل فيما بينهما وارداً، وان الكاتب حين (يستخدم خياله لا يهرب من الحقيقية بل يلتمس الحقيقة كذلك في الخيال).

في وقفة لنا مع القصة القصيرة المعنونة (الطفل المخطوف) للقاص محمد خضير ومع اطلالتنا الاولى عليها نجد ان القاص قد جعل بؤرة النص وثيمته تفرض نفسها بجلاء اولاً عبر العتبة الاولى وهو العنوان الذي يعد في صلب النص، مبتدئه ومنطلقه، فالعنوان الذي يكون مدخلاً لنص القصة يقوم بالتبئير على مكونات القصة باكملها، وذلك عبر منحى يربط البداية في المحصلة النهائية ضمن مجال دلالي واحد هو ثيمة الخطف والفقدان الذي لم يترك الكاتب لفضول قارئه فسحة بان يتلقى ثيمة غيرها، جاعلاً من بدايتها ومتنها ومنتهاها لا ينحرف عن هذا الجانب.

القصة تمتاز بانفرادها بخصيصة الاقتراب من الواقع والابتعاد عنه في ذات الوقت، فالكاتب يضع قارئه مباشرة في حيز الفعل القصصي داخل الحدث دونما مواربه حتى ان خاتمة القصة لا تجيء بصورة مباغتة وكأن القارىء على موعد مع رؤية الصبي بهكذا صورة تنتهي نهاية سلبية،فهو لا يحاول كسر توقع المتلقي والذي نلمسه بجلاء عبر ما ورد من قول للام الطفل المخطوف ( مضى عام على اختطافه وكلما انقطع املي من عودته رسخ عندي انه صار واحدا منهم سمعت انهم عصابة من الاحداث صغار السن)، وان هذا الصراع الذي يتبأر حول ثيمة الخطف يحاول القاص رصده على امتداد القصة بمختلف حيثياتها، لأن الكاتب يريد ايصال رسالة محددة لذلك نراه لا يريد التوسع اكثر من هذه الثيمة مما ادى الى انعكاسها انعكاساً واضحاً متفرداً على القصة باكملها، جاعلاً من فكرة الخطف فكرة اساسية لا تتداعى وتتقاطع مع افكار اخرى، لا سيما ان القصة قصيرة ايضا لا يتجاوز عدد صفحاتها الصفحتين والنصف.

القاص يحاول الغوص وراء بنى قائمة على ثنائيات ضدية تطرح مواجهة الواقع في شرائحه المتنوعة، ومعاينة تحولاتة لتحقيق بنية مغايرة، وانه باتخاذه هذا الاسلوب الغرائبي يخلق صورة مضادة لواقع حقيقي عبر واقع خيالي يواجه القارىء فيه منذ البدء بشخصية استثنائية وهو السرطان الذي يميل القاص عبره الى تفوق التخيل وتجاوز البعد الواقعي، ولكن ليس على حساب المضمون الذي يطوي رسائل نقدية واضحة، فالخطف الذي هو المحور الاساسي التي تتحرك به القصة والذي هو حاضر بقوة على مفاصل القصة يتعزز عبرها، وان القاص يحاول فيها تقديم صورة مجازية مصغرة عن رؤيته لواقع الحال و اكتناه أبعاده.

 تبعا لهذا نجد ان القصة تتجسد في آليات تعبيرية مختلفة، من حيث التكنيك الفني تنشطر الى نصفين اولهما التكنيك الواقعي بما يحويه من شخوص واقعية متمثلة بشخصية الام والابن المخطوف، وفي ذات الوقت استخدام الخيال وفوق الواقعي عبر الشخصيات المتمثلة بالحيوانات المتمثلة (سراطين الساحل وسلاحفه وحلزوناته)،التي كما قلنا انها تواجه القارىء منذ البدء تأتي شاخصة منذ العناوين الفرعية -1 السرطان يخرج من ثقبه -2-السرطان يخطب في اهل الساحل، و منذ الاستهلال الذي هو منطلق ومدخل اساسي يلي العنوان ويعد رابطاً يشد القارىء اليه ( يطيب للسرطان ان يغادر ثقبه كلما حل نهار مثالي كهذا النهار من صيف المخطوفين) ان عدم ربط القاص قصته بتاريخ محدد جعل هذه القضية تعبر عن رمز معنوي في كل وقت فالخطف والفقدان هي رموز تشير الى كل زمان ومكان ولجوء القاص الى تكرار مفردة الخطف في اكثر من موقع في القصة ناشىء عن عمق الماساة، وكما يبدو ان الغرض من وراء الاستعانة بهكذا نوع من التناول الفنتازي والخيالي هدفه هو(الهروب هو تبيان الضيق وكبت الانفاس والرعب الذي يتميز بها عالمنا الانساني، تكشف الفنتازيا عن الانحطاط وتمعن فيه فهي اداة ليست للتسريه عن النفس والاسترجاع بل لتثبيت المخاوف والخسائر).

هذه الكتابة فوق الواقعية يمارسها الكاتب حينما يشعر بعدم الامان والذي بكثيرٍ من الاقتدار ان الوعي النقدي للقاص محمد خضير يأتي دوما مرتبطاً برؤيته لما يتبدى من حوله فهو الذي يؤكد على اننا(ما دمنا نعيش وما زلنا نعيش زمن الفقدان والنفي والضياع فان الغياب احساس اولي سابق على فاعلية الحضور)، وبهذا ينبغي لنا ان لا ننظر الى الجانبين الخيال / الواقع على انهما طرفي نقيض وعدم امكانية الفصل بينهما اذ ان الترابط بينهما وثيق فان كلاهما استطاع ان يعكس الضوء على ثيمة الخطف والفقدان الذي جاء مشكلا عنصراً مهماً في تحديد رؤية الكاتب الفكريه الى الواقع الذي نستشفه من قوله ان(قصصي حقا قصص افتراضية نهضت من الواقع الشيئي او العيني وفي كتبي كلها شفرة متنقلة شفرة لغوية ذات حمولة رؤيوية).

وان هذه الثيمة التي بدأت تباشيرها منذ البدء تستمر فاعلة على امتداد القصة الذي يكون مطلبها الاساسي الرغبة في ايجاد الصبي المفقود وافتدائه. ان هدف القاص الاساسي اعطاء الاولوية لمعنى الخطف ما جعل عبارة الخطف في قصة قصيرة تتكرر حوالي 17 مرة، فمحاولة البحث عن الطفل المفقود والرغبة في ايجاده ومحاولة افتدائه مطلب اخر يليه في الاهمية (اني على اتم استعداد لافتداء الطفل المخطوف بحياتي وتخليصه من ايدي العصابة التي تحتجزه عندها)، وهكذا نجد محمد خضير في هذا التأويل الذي يجده القارىء من استخدم العناصر الخيالية المتظافرة مع ما هو واقعي والذي يؤكد عليه الكاتب بقوله (ان ننفخ الروح في الطير كما نستطيع ان نحرك دمى الطين ونجعلها تنطق كالبشر)، من اجل التعبير الدرامي اللامباشر عن حالات انية تكون يد الشر هي المسيطرة فيها اما ما سواه فلا تأثير له فدوره سلبي وغير فاعل، فتكون الخيبة من عدم تحقيق الرغبة في الإنعتاق من سلطة الشر واضحة في القصة وذلك عبر الهروب والاحتماء في الثقوب (زمجرت الدراجات على الشارع الساحلي وانطلقت عاوية هادرة ثم انعطفت بالعصابة في درب الطفل المخطوف وعاد السكون الى شاطىء السرطان المتوحد في ثقبه) - (اسرعت السراطين الى ثقوبها، ولاذت الحلزونات بقواقعها وادارت السلاحف دروعها وانسرحت تحت بساط النهر المنكمش بلمسات القمر العصابة العصابة افرغ السرطان محاطه واسرع الى ثقبه) ان مفردة الثقوب وتكرارها هنا يشير رمزياً إلى الكون المحكوم بظاهرة الخوف والرعب من الفقدان والخطف التي ليست وقفاً على الانسان انما يشاركه الحيوان وحتى الجماد التي تنتظم بوجودها الذي يكسر المألوف ليمنح الكاتب امتداداً في الرؤية وكأن نهاية الخوف لا تتم إلا في الخروج من تلك الثقوب لفضاء الحرية لكنها تتحول في القصة رمزا للعزل ومكانا للاحتماء من واقع يحمل معه رائحة القتل ودوي الانفجارات،،وكأن القاص يريد ان يقول ان العنف متواصل ولا يريد ان ينجلي، وان الإستكانة وعدم الرغبة في المقاومة مستمرة في حضرة الشر، فهو تعبير عن الرغبة في تحقيق وانجاز الفعل وعن الاحباط لعدم تحقيقه في النهاية حيث تختبىء السرطانات في ثقوبهاالتماسا للنجاة، وهكذا يعلن الكاتب حضورهذه الثيمة في فلسفة كل الأشياء والكائنات، (ثقوب السماء التي تنطلق منها السمكات الطائرة واسباب انزعاجها وهديرها وتحليقها على رؤوس البشر المحشورين في ثقوبهم ) (وفاجأ السرطان حال خروجه من ثقبه فاتقى الضياء الغامر بذراعيه).

استنادا الى ذلك يمكن القول ان هذه القصة تحمل الكثير من المفارقة بما تمتلكه من قوة الحضور الرمزي الذي بمجرد ما يدخل تلافيف القصة لا بد ان يولد عددا من الدلالات، ولرب متسائل يتساءل انه على الرغم من وضوح وشفافية المضمون الذي تحمله وان الثيمة الاساسية ليست مخفية بين ثنايا القصة انما على سطحها لكننا بالمقابل نجد ان القاص يتعاطى مع هكذا غرائبية، فالقاص من جهة يحاول المباشرة في طرح الموضوع ولكنه في الوقت ذاته يحاول التشويش على القارىء باستخدام اشكالا غرائبية عبر التوغل في مناطق تعبيرية متنوعة واقامة بناء فني يعتمد على البنى الواقعية والخيال الذي (يهرب من الملموس ليختبىء في الرمزي الذي يستعصي عادة على ضوابط العقل ومنطقه).

وليس من المبالغة القول ان اتساع مفهوم الابداع لدى محمد خضيردائما وكما في هذه القصة ما يجعله يسعى دوما الى طرح علاقات انسانية بشكل جديد، ومحاولة النظر الى الواقع برؤية مختلفة والتعبيرعنه بما يتلاءم مع خصوصية القصة،وذلك اما لضرورة ابداعية جمالية اولوظيفة دلالية واسلوبية، ان الخلفية الفكرية لمحمد خضير التي تحققت من خلال التراكم المعرفي من توسع القراءات اي عبرما قرا من مؤلفات اثرت فيه ما جعلت قصصه تنطوي على معان خاصة وافكار متنوعة وايضا بناء ما تقتضيه تجربته الحياتية ورؤيته للاشياء، وربما ايضاً ايماناً من الكاتب من ان التعددية في التناول لا تضعف النص انما تقويه كما انه يؤمن من ان توظيف الغرائبية دلاليا ًقصد زحزحة المألوف والمعتاد والتعبير عن حاجة مطلوبة لمجاوزة للاطر التقليدية في الكتابة هو من اجل اثارة قارئه ومحاولة استفزازه للقراءة بما يخدم التواصل، ربما اسهمت هذه مجتمعة في هذا التنوع والجدة وربما لهذه الاسباب صعب تحييد رؤيته ضمن اتجاه بعينه، فهو الذي قطع اشواطا كبيرة من الابداع ومن العمر ووصل الى حقيقة بأن عليه ارتياد جوانب اخرى بارتياد عوالم من الاغتراب والفنتازيا وفي ارتياده الحقول المعرفية المتنوعة التي تمنحه غنى النص ومثل هذا التصدير يتكرر في اعماله فهو الذي يعلن (ان الشعور بالسفر والهجرة الى الاطراف هو ما ينبغي للكاتب الواقعي يفعله في نهاية العمر)، وهو الذي يعلن عن رغبته ايضا في محاولة الافراغ تماما من ميراث المراحل الواقعية الاولى التي تدفعه و تفسر أهمية الاستعانة بالغرائبية والتعويل عليها واستشف من ذلك من قول الكاتب (اعمالي الاخيرة سبيكة من الانظمة السردية والشعرية والفكرية المختلطة احاول الا تفوتني فرص لاثبات ان الشكل السردي يتسع لتفاعلات او تموجات او براهين عديدة).

عرض مقالات: