ذكريات

في هدأة الهجيع الأخير من الليل استيقظ الكهل من نومه وأشعل عود ثقاب ونظر إلى الجسد الهرم الممدد بجانبه، همس.

-إيه، أيتها العجوز لقد غربت شمسنا.

-ماذا تقول أيها المخرف؟

فقال لنفسه دهشاً.

-إنها مستيقظة!

ثم رشقها بنظرة عاتبة وأسر لنفسه.

-مات كل شيء إلاّ اللسان.

ومن النافذة المقابلة للسرير تسللت خيوط فضية لفجر جديد فتمتم.

-إيه، لم يبق سوى اجترار الذكريات البعيدة.

وبتوالي اللحظات تعالى شخيره ليغمر سماء الغرفة.

الشقوق

على امتداد أفقي للبصر، وفي مواجهة عيني العجوز المستكينة على كرسيها الممدد على أرض الحقل المعشوشبة، بان جسدان فتيان لشاب غض يرتدي سروال (كاوبوي) عتيق، وفتاة بضة الوجه، وهما جالسان تحت فئ شجرة أثل عملاقة… غضت العجوز أطراف أهدابها ورأت الشناشيل المشرعة بوجه السماء، والستائر التي تفصل بين أبواب البيوت وجو الأزقة المزدانة بصخب الأطفال وصراخ الباعة… كانت كلما تنتهز فرصة خلو الغرفة من العائلة تنسل بخفة نحو النافذة، ترفع الستارة وتبصبص بعيون حذره، ولما تراه بوقفته في رأس الزقاق وهو يرتدي (صايته) البيضاء و (دميره) المقلم وطاقيته الصوفية، وكان ثمة تيار لذيذ يسري في حناياها وتتصور نفسها بملابس العروس، وهو بفتوته يقفل باب الغرفة ويستدير، يواجهها بعيون خجلى ويتقدم منها بتوجس فيما تغض هي أطرافها، يمد أصابعه برفق ويزيح البرقع عن وجهها و… تناهى إلى سمعها ضحكة رقيقة فعادت إلى نفسها وتلفتت نحو الشجرة فوجدتهما،.. الشاب منكب على وجه الفتاة، والفتاة تنصت بفرح وتبتسم بين الفينة والفينة، صرخت.

-أنتما.... ألا تخجلان؟!.

يبدو أنهما لم يسمعاها فضحك الشاب وأمالت الفتاة رأسها مغطية النصف الأيمن من وجهه، فيما انتاب العجوز شعور أرض خدش العطش جسدها وأحالها إلى شقوق مفتوحة الأشداق.

العاصفة

مثل عاصفة هوجاء دخل المقهى، نظرت إليه بدهشة، وجه تجاوز العقد الخامس بلحية كثة بيضاء، يرتدي معطفاً مطرياً مسربلاً حتى أسفل الركبة، يرتكز في مشيته على عصا غليظة ملساء، تفرس في الأرجاء ثم انزوى على مقعد قريب مني.

كان يدخن بشراهة، يمص الفلتر الأحمر ويكّز على حوافه بأسنانه النضيدة ويحملق بقسوة في الأوراق الملقاة أمامه على الطاولة، سأله النادل.

-قهوة مرة.

قال ذلك من دون أن ينظر إليه، وبين الفينة وأختها ينظر عبر الزجاج إلى واجهة السينما المزدانة بالنيون ثم يمسك القلم ويكتب.

-غريب أمر هذا الرجل.

همست لنفسي وأنا أراه يلقي قلمه فوق أوراقه بعصبية ظاهرة، وحين وافاه النادل بالقهوة طفق يراقب البخار المتصاعد أمام وجهه، وبغتة تناول القلم ووضعه في جيبه ثم حمل عصاته وخرج.

قمت وخطوت نحو طاولته وجلست مكانه… أوراق بيضاء، وأخرى تقتحمها دوائر مغلقة، وثالثة تنوء بكلمات مبعثرة لا يربطها رابط، وفنجان قهوة لم يمس بعد.

عرض مقالات: