لم تفاجئنا رغد السهيل في إبحارها المتمكن بجدارة بين أمواج سرديتها العاتية في رواية “محنة كورو” التي حصدت المرتبة الأولى في جائزة الإبداع لعام 2023 لوزارة الثقافة العراقية مناصفة مع روائي آخر. هذه الرواية تعدّ عمارة شامخة معقدة بطوابق متعددة ودهاليز وممرات ومتاهات، هي اليوم نص محتشد بالألغاز والأسرار والرموز، وهذا يتطلب قارئًا متمكنًا صبورًا كي يفكك أسرارها وخباياها، وعليه يتطلب إعادة قراءة هذه الرواية ودراستها.. وهذا ما أتبعه أنا.. وعليه وجدت أن هذه الرواية تعد من روايات الحداثة وما بعدها. “محنة كورو” توثق بجدارة لمحنة مرت بزمن واحد تسيّدت هذا الكوكب فوحدته وجعلته وكأنه بيتًا واحدّا يعيش محنة وجدها قاتلة ومستعصية حتى على المتخصصين بفك أسرارها والتغلب عليها .

المحنة هنا ما يقع على الناس من بلية تحتاج إلى حلٍ قد يكون صعبًا، وكلمة كورو هو الترميز الأول في هذه السردية لنوع وماهية هذه المحنة، فما أن تتوغل سطورها الأولى ستكتشف أن هذه المحنة التي سببها فايروس كورونا، أو كوفيد 19، علماً ان المؤلفة غادة السهيل قد نالت شهادة الدكتوراه بعلم المناعة ودرست هذا الاختصاص في كلية العلوم/ جامعة بغداد حتى إحالتها على التقاعد، وقد كتبت عنه الكثير حينها من تعليمات وإرشادات.. وقد ترى حجم معرفتها وقدرتها في هذا الاختصاص وهذا الفايروس ما بين  سطور هذه الرواية.

تقودنا الروائية هنا بلغتها الآسرة لعدة مداخل رئيسة كما أراها ومنها الأنسنة، فالأنسنة مصطلح يستدعي به الكاتب حيوانًا أو جمادًا للحديث وكأنه إنسان، استخدم كثيرًا في مراحل أولى لمتعة الأطفال، وبالفعل تجد هنا السارد العليم بكل أسرار البشر وغيرهم هو فايروس كورونا..الفايروس الذي أوقف العالم كله على قدميه فزعًا مرعوبًا.

وللترميز وجود تسيّد الرواية كلها ومنها:” فلقد فرش هورشو جناحيه وفر مبتعدا عن السنة الموت إلى غابة أخرى، وتشبث مخلب إبهامه بغصن شجرة مانجو عتيقة... وتعلق كعادته مقلوبا متصنعا الموت”. وهنا دلالة واضحة عن المكان الذي وجد به هذا الفايروس وهو طير (الخفاش) قبل انتقاله إلى البشر، فهورشو هو طير الخفاش . وأمثلة الترميز كثيرة ومنها:” حتى اصطاده بكل سهولة عملاق اصفر الوجه قصير القامة، عيناه سوداوان ضيقتان” ، وكلمة عملاق استخدمت بوصف الإنسان من قبل السارد كورو ، فالفايروس يرانا عمالقة مقايسة بحجمه، كما أن الرجل الأصفر الوجه وقصير القامة هو الرجل الصيني، وهو الرجل الأول الذي أصيب به، ومن هناك بدأت المحنة وتسربت إلى بقاع هذا الكوكب.

هنا للحداثة حضور كاستخدامها للترقيم، فتجد لكل رقم دلالة على شيء معين له علاقة بالحدث والسردية مثل العملاق صفر:” ولأن أول ما رأـيته منه رأسه المدور الخالي من الشعر أطلقت عليه( العملاق صفر)” ، ومن الترقيم أيضًا العملاق مازن 2014 وهو دلالة على زمن إصابته بهذا الفايروس وهو في عالم الغربة:” طرت من أنفاس مضيفتي لأنحدر على كف العملاق مازن 2014 “. 

الروائية تسرد في رحلتها هذه على ما يمر به العراق من حجم الخراب بأشكاله المتنوعة والمتعددة كالفساد والمخدرات والقتل وضعف الدولة لا بل مشاركتها بهذا الخراب بصورة مقتدرة ،  وسمى هذا النوع من السرد ب ( دستوبيا)، وجدتُ الدستوبيا واضحة المعالم في روايتها الأولى ( أحببت حمارًا)، فهي ترسم بجدارة عمودًيا وأفقيًا ما يحصل في هذه البلد من تراجع كبير في كل مجالات الحياة ومنها مالا يعرفه العالم كله وهو شراء المناصب بالدولار، تدفع أكثر تتقدم وظيفيًا أفضل.. كما لا تنسى حراك الشعب وتضحياته من أجل بناء وطن مدني وحضاري كما حصل في الثورة التشرينية السلمية التي أبهرت العالم..ومنها:” فقد كنت أسمع هديرا مدويا لمحركات ضخمة تنفث دخانا أسود يصبغ السماء، وتبزغ منه أسلاك متشابكة متشعبة تمتد في فضاء الطرقات” والمقصود هنا محركات الديزل المولدة للكهرباء ومولدة أيضا للتلوث البيئي..”:- هذا همٌ آخر يا عزيزتي.. كلما عثر  رجال الأمن على  طفل تائه اتصلوا بها فتتعلق بالأمل.. قبل أيام عثروا على طفل فاقد الوعي مرمي على قارعة الطريق، واتضح أنه تناول جرعة كبيرة من المخدرات”.. وفي ذات الصفحة:”قالت صاحبتها والوجوم يكسو ملامحها: هيا لنر أحوال المدعو تشريني، وهنا المقصود الثورة التشرينية المدنية السلمية..

لرغد السهيل قدرة متميزة في السردية في القصة والرواية العراقية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* روائي وناقد اصدر الاعمال الآتية: “خريف الشرق، أولاد حمدان، اصنام موفوبيا، تحت شجرة التوت، عشق عاب الحدود، العزيز، محنة الجراد، دروب الموت، من تحت الأرض، غيمة آمال.

عرض مقالات: