كثيراً ما تُستثمر هوامش الملتقيات الثقافية، أو المهرجانات الشعرية، أو المؤتمرات السردية، في حوارات جانبية لبعض القضايا التي تستجد في المشهد الثقافي، أو التي تتجذر في الوعي المعرفي (فكرًا وثقافةً وجمالًا)، ومنها، قضية النص العظيم وشواغله المتعلقة بالخلق والإبداع على مستوى التنظير والإجراء، النص الذي يخلّد اسم مؤلفه سواء أكان شاعرًا أو ناثرّا. وعلى الرغم من تعدد الآراء التي قيلت في هذه القضية، إلا أننا نجدها في ختام الحوارات تتفق على أن هذا النص هو الأكثر عمقاً في تناول الوجود، والأكثر إدراكاً في كشف دواخل الإنسان، والأكثر قوةً في الاحتفاء بالرؤى التي تحرره من المقيّدات، والأكثر قدرة على تفعيل الذهني والمعرفي والشعوري. فهل يمكننا تحديد هوية هذا النص؟ وهل يمتلك فاعلية تجعله نصًا عظيمًا؟ وهل يمنح هذا النص مؤلفه بطاقة البقاء في الذاكرة القرائية؟

نسعى عبر هذا المدخل إلى كشف فاعلية النص العظيم في الاشتغال الأدبي، النص المؤثث بحساسية عالية، الحساسية بوصفها الجذمور الحقيقي لكل منجز أدبي يثير القلق والاطمئنان في الآن ذاته، والنص بوصفه نصًا عميقًا ومثيرًا للاستغراب، يتميز بالخداع والتخطيط الماكر، إذ يربك القارئ على مستوى التشكيل والتدليل. فإذا كانت فاعلية النص تتشكل من مهارات الممارسة الكتابية التي تنهض على الإمتاع والإقناع في مناورات الخصائص الفنية وممراتها السرية، فما فاعلية النص الذي يشكل القلق متكئاً حاداً في تحطيم اتجاهاته النصيّة التقليدية؟ وما جوهره الذي يفيض حيرةً وحذراً، ولماذا تعرّضنا أعماقه للمخاطر والإغراءات؟ علمًا أننا نتفق مع الناقد شكري عزيز الماضي بشأن مصطلح (التقليدية) لا بدلالة (التهمة) كما هي مألوفة عند كثيرين من القراء أو النقاد، بل بدلالته العلمية الدقيقة، لأنه يأتي وصفا لأشكال أو أنماط فنية محددة، ذات موضوعات معينة في بنائها وأسلوبها وهدفها.

ولكي نجيب عن هذه الأسئلة وغيرها، لا بد من وضع المهارات النصيّة على مصطبة التشريح تنظيراً في بداية الأمر، ثم إجراء لكي نعزز المقولات التي صاغت جوهرها، وأن نذهب إلى الزوايا الحادة؛ لنستكشف ما تخفي من مغامرات، ونبتعد عن الزوايا المنفرجة؛ لأنها غير قادرة على الاكتظاظ بما هو مشوِّش ومقلِق. وهذا يوقعنا في دائرة التوجس من المخاطر التي تهدد بقاء النص في دائرة اليقين، والرفض لكل استرخاء يركّز في النص التقليدي؛ لأنّنا أمام اشتغال فيه من المهارة والمعرفة ما يجعله متعالياً على كل اشتغال لا يعيش قلق السؤال والمغامرة والبحث عن شعرية جديدة، تتفاعل مع المتغيرات الحياتية. وعلى هذا الأساس ألا يحق لنا التفكير في إعادة النظر في كتاباتنا النصيّة، وإثارة الأسئلة في صياغاتها الجديدة، تماشياً مع الفضاءات المعرفية المغايرة ومقاربة المهولات التي تحرّضنا على الاصطدام بالإشكاليات المتجذرة في ولعنا بالتجريب؟

النص العظيم الذي نحن بصدد فاعليته نص سحري يحتفظ بوهجه وحرارته في كل قراءة جديدة، ويشكل قوة تراهن على الخلود والاستمرار بالفاعلية نفسها في كل زمان ومكان، وكأنه كُتب اليوم، يتوغل في أعماق النفس الإنسانية بوصفه أداة فهم وتواصل، ولنا شواهد في بعض النصوص على سبيل المثال لا الحصر ما يؤكد ذلك، فملحمة (جلجامش) على الرغم من امتداد الزمن القبلي والبعدي في التقويم الميلادي منذ تأليفها حتى وصولها إلينا، ظلّت تراهن على فاعليتها الأزلية فيما يخص أعمال جلجامش البطولية ومغامراته مع صديقه أنكيدو من جهة وقصة الطوفان من جهة ثانية، وحكايات (ألف ليلة وليلة) ذات الأجواء الشعبية الساحرة، والتشكيل الإطاري الذي تأثث بحوادث عجيبة، وحكايات غريبة، وتفاصيل مدهشة، ما زال ينهل منه الروائيون الغربيون  والعرب من أجل تفعيل خطاباتهم عبر الإرسال السردي داخل العمل الروائي، وإرساء جماليات جديدة. ورواية (دون كيخوته) لسرفانتس التي ما زلنا نفكر في صياغة شخصيتها التي ظلت تتوغل في أعماقنا بقوة مثيرة، وكيف تجسدت في اندفاعاتها العاطفية، وتصوراتها السحرية غير العقلانية، وقطيعاتها المعرفية لمنجزات التنوير الأوربي. أما رواية (الأخوة كرامازوف) لديستوفسكي التي عدّها سيجموند فرويد أعظم رواية كتبت على الإطلاق، فقد  شكّلت منجمًا في أغلب تحليلاته النفسية، وبقيت محافظة على سحرها ووهجها وخطورتها إلى يومنا هذا. وهكذا ملحمة (الفردوس المفقود) لملتون، و(الكوميديا الإلهية) لدانتي، ومسرحيات (هاملت وماكبث وعطيل والملك لير ) لشكسبير ودواوين المتنبي وأبو العلاء المعري وأبو تمام.. وغيرهم. كل هذه الأعمال العظيمة هي في حقيقة الأمر مجرد شواهد للتمثيل وليس الحصر كما قلنا سابقًا، فهي وغيرها من النصوص الخلّاقة تشير في كل محمولاتها إلى مناطق الخلل في العمق الإنساني، وتستكشفً بإشاراتها، عتمة الحياة،  وظلمة الوجود، كي تخلّف خيارًا أبديّا، وتلقي برحلتها داخل الأبدية ومنعرجاتها المظلمة، المزيد من الضوء والأنوار الكشافة، لتترك أثرها في كلّ مكان تمرّ عليه، وكل زمان تقرأ فيه على الرغم من التغييرات التي تحدث في الأفق القرائي من حين لآخر، فضلا عن الاختلاف بشأن تقبل بعض أنماط هذه النصوص أو رفضها.

لقد طرحنا مجموعة من الأسئلة بخصوص فاعلية النص العظيم وإغراءاته ومخاطره، ذلك النص الذي تخلّده الحساسية الفائقة للمبدع، وقدرته العالية على التقاط المضمر في المكشوفات الحياتية، وطاقته الوافرة في تحويل الأفكار إلى انفعالات. ويمكننا الإجابة عن تلك الأسئلة عبر تثوير حساسياتنا أيضا – بوصفنا قرّاء أو نقاد- لنكتشف سر قوة هذه النصوص، وسر الزلزال الذي تخلّفه الاستجابة لمفعولها السحري، فهي نصوص تتأبى على المكانية والزمانية التي تتحكم في مقاربة الإنسان لوجوده المادي والمعنوي، نصوص تدخر في مظانها حيوية وخصوبة وحرارة، توجهنا لدواخلنا، أو تحيلنا إلى أرواحنا، فما من شيء يسعه أن يكون عظيمًا إلا إذا أسهم في بناء صروحنا الداخلية، أو في تعزيزها وتطويرها، أي إلا إذا استطاع أن يوقظنا على انسانيتنا، أو ماهياتنا المتعالية، فهي تنمّي العنصر الإنساني في الإنسان، أو صقل النفس ابتغاء الإسهام في تخليصها من همجيتها ومساعدتها على البلوغ إلى برهة الكمال التي هي – في نظر محي الدين بن عربي -  الغاية النهائية لوجود الإنسان، حسب توصيف الناقد يوسف سامي اليوسف. ويمكننا أن نقول في ختام المقاربة: إن التراكم المعرفي للقارئ هو الذي يتيح له اكتشاف فاعلية النص العظيم في كل قراءة جديدة، سواء أكان هذا الاكتشاف في التشكيل أو في التدليل، تبعًا لحساسية النص المتعالية، والمتعة التي يبعثها في نفس القارئ، والتوتر الناتج عند قراءته، وما خفي منه وما ظهر، سواء أتحقق ذلك بالتقابل الاستعاري أو التقابل التأويلي، من أجل صوغ الغامض المتفرد من مجمل الواضح السائد.

عرض مقالات: