اخر الاخبار

(حرية الخيال ليست بمعنى قدرته على إنشاء افكار جديدة بدون انطباعات سابقة) جمـلة ولّدت جدلية هائلة عند بعض الفلاسفة بعد ان اطلقها وانتهجها الفيلسوف _والعالم -المكين: ديفيد هيوم في “قانون السببية العام”.

ربما يؤمن البعض بصحتها بينما يعارضها اخرون او اولئك الذين يؤمنون بأن الخيال ماهية مطلقة - خارج حدود الواقع الموضوعي للأنسان. ان قانون هيوم يؤكد: أنه لا يمكن للخيال ان يتعدى حدود الانطباعات المتولدة في الواقع الموضوعي الذي يحيط بالأنسان دون أن يكون لذلك الخيال انطباعاً “ اي حدث ما “ ضروري التحقق في الواقع. ولفهم ماتقدم ،لابد اولاً ان نميز بين الفكرة الحقيقية وافكار الخيال المترتبة في ذهن الإنسان  ويبدو لي ان التمييز بينهما ليس منفصلاً لأنهما ضرورتان متلازمتان، اي يشترط حدوث الثانية “الخيال” بتوفر الأولى “الفكرة الحقيقة”. لكن هذا التمييز يتضمن فرقاً بسيطاً بينهما. وهو: ان الفكرة الحقيقية وفقاً لقانون السببية العام عند هيوم، هي الفكرة التي تنشأ عن انطباع موضوعي. اي ان يلزم حدثاً او مشهداً  في حياة الإنسان “وهو الانطباع الموضوعي” مع لزوم توفر أدوات الحدث ثم ينشأ بعد ذلك مشهداً صورياً بداخل الإنسان “اي تنشأ صورة الانطباع التي تولدت من الواقع أمام أعين الإنسان في الإنسان نفسه”. عندها تتولد الفكرة عن ماهية الحدث. وهذه هي الفكرة الحقيقية _خالصة النشوء من الواقع نفسه دون تدخل الإنسان في ذلك. وبأختصار شديد  “إن انطباعاً ما عن الواقع مع أدوات ذلك الانطباع يؤدي إلى فكرة حقيقية.”

- وابسط مثال لتوضيح ذلك في الانطباع وأدواته هو الأنطباع الذي اُخـذ منه قانون الجاذبية العام لنيوتن. حيث نفترض ان “سقوط التفاحة من الشجرة على الأرض”هذا كله انطباع خالص يولد مشهداً صورياً في ذاكرة الإنسان وهو مشهد سقوط التفاحة على الأرض. وان أدوات الأنطباع تكون متمثلة “بالتفاحة والأرض والشجرة “وأي اداة أخرى توفرت في ذلك الأنطباع. فتتوفر حينها الفكرة الحقيقية غير المشوبة ثم تنحسر في الذاكرة. بعد ذلك الانحسار ما الذي يحدث؟ اي بعد ما توّلد الانطباع بذاكرة الإنسان  واحتفظ بذلك الانطباع في ذهنه. يبقى ذلك الانطباع ساكناً دون فائدة أم يتحكم به الإنسان ويقدم ويؤخر ليولد شيئاً ما ؟

-هنا يغرد هيوم بقانونه مصمماً على ان فائدة ذلك الانحسار او الانطباعات في الذهن هي مسبب رئيسي لأفكار الخيال. بحكم قوله أن (حرية الخيال ليست بمعنى قدرته على إنشاء افكار جديدة بدون انطباعات سابقة، لأن كل فكرة خيالية لا توجد في إدراكنا إلا نتيجة انطباع ، ولكن الخيال حر في التصرف بذلك العدد الكبير من الانطباعات فيفضل ويؤلف ويقدم ويؤخر فيما بينها مكونا الصور والأوضاع التي تروق له) اي يتم تجميع عدة انطباعات ترتبت في الواقع وواحدة منها المثال أعلاه “الجاذبية “ واضيف إلى ذلك ان أدوات الانطباع لها دور كبير جداً في توليد الخيال وليس الانطباع وحده يتدخل في ذلك الشأن. وهنا يتحصل: ان مجموعة انطباعات مع أدواتها تتسبب في افكار الخيال. حيث ينحصر القول بأن “الخيال نتاج الواقع لكن هنالك تقديم وتأخير في الانطباعات وأدواتها تجعل الذهن يولد فكرة جديدة متمثلة بالخيال كالشعر مثلاً يخيل للشاعر أنها صنعة خارجه عن الواقع بوصفها ولدت نتيجة الخيال وفي الحقيقة هي نتيجة الواقع الذي ترتب على ذهنه في انطباعات سابقة. لكن هنالك تقديم و تأخير انطباعات عن أخرى  ودمج بعضها ببعض آخر لينتج خيالاً _مزخرفاً  بالجمالي _ ورقصات _موسيقيّة موزونة متمثلاً ذلك بالشعر.

هيوم  معني بالشعر، فيما نتبين أن الشعر كلمات ترتبت نتيجة افكار الخيال. نستطيع الآن أن نخرج بخلاصة مهمة وهي“ان الخيال هو نتاج انطباع عن الواقع وكلما تعددت تجارب الشاعر في الواقع  تتولد نتيجة ذلك الانطباعات وكل ما تولدت، ينشأ الخيال متطوراً من تلك الانطباعات وقوة ذلك الخيال ومداه تضاهي قوة ومدى الانطباع الناتج. وخير ما يستحق أن يذكر في هذا النحو هو المتأمل والمحدث والصانع المحترف جداً طارق الياسين، لأن شدة الخيال ومداه الواسع عند هذا الشاعر ، تدل على تعدد تجاربه وانطباعاته في حياته واستخدام تلك الانطباعات بطريقة محترفة - حداثية بحتة في كتابة النص العامي - الشعبي الحديث.

جملة من أبيات هذا الشاعر العظيم في ديوانه وضوح اول.

1 - رسمت الألم بوابة وفتت منها

اسـمعت صوت الخبز بالجَسد يتكسر .

2 - قدمها الحافي !

يرسم ساقية صغيرة مقمرة.

3 -الليل وادي ، وادي مظـلم

وادي عالي ، ونحن على القمة سكارى.

4 -الغزاله التي رسـمها الظل ،

تشبه افراح الواقفة على التل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتب وشاعر من ذي قار، يدرس في جامعة البصرة- كلية الطب.

عرض مقالات: