كان الجيلُ الأوّل من المؤرخين ، في العراق، يقومُ، في منهجه، على رواية الحوادث وتدوينها، والرجوع فيها إلى أوثق مصادرها؛ وقلّما عُني بالتفسير، وبيانِ الأسبابِ البعيدة، وقلّما صدر عن فلسفةٍ في الفهم؛ تربطُ الحوادثَ بما هو أسع منها ، وتُرجع المختلفَ المتباين إلى عامل يحكمه ويفسّره ؛ على أنّه جيل كريم واسعُ العلم ، شديدُ التحرّي ، ثابت الإخلاص في طلب الحقيقة ، والإبانة عنها ؛ يأتي في الصدارة منه عبّاس العزّاويّ المحامي، في “تاريخ العراق بين احتلالين”، وعبد الرزّاق الحسنيّ، في
“تاريخ الوزارات العراقيّة”، ومحمّد مهدي البصير، في “تاريخ القضيّة العراقيّة“، وغيرهم ممن سار على نهجهم . وهو جيل رائدٌ أحبَّ التاريخ ، ورأى فيه بابًا من أبواب الحقيقة؛ ولكنه لم يدرس التاريخ في معاهد متخصّصةٍ به. ثمّ نشأ من بعدهم جيل درس التاريخ في معاهده الأكاديميّة ، في أوربّا وفي أمريكا ، وعادوا متضلعين منه مادةً ومنهجًا فأقاموا الدراسةَ التاريخيّة على أصولٍ واضحةٍ رصينة؛ إذ صار التاريخُ لديهم لا يكتفي برواية الوقائع وتدوينها، وإنّما يسعى إلى التفسير، وربطِ النتائج بأسبابٍ قريبةٍ ، وبعيدة حتّى يتّضحَ المعنى والمغزى من وراء الحوادث الواقعة؛ ولقد كان في طليعة هذا الجيل : جواد عليّ، وعبد العزيز الدوريّ، وصالح أحمد العليّ ، وطه باقر. وقد صحبهم، وجاء بعدهم، مؤرّخون في طبقةٍ عالية من الصدق والإخلاص في البحث والتأليف؛ درسوا التاريخ القديم ، والتاريخ العربيّ الإسلاميّ، والتاريخ الحديث بمناهج متباينةٍ في صنعتها، متّفقةٍ على توخّي الحقيقة وإضاءة جانب منها.
وإذا كان من المؤرّخين من عُني بقيام الدولة ، ونشوء أنظمتها ، والوقوف على رجالها في حربهم وسلمهم؛ فإنّ جانبًا آخر من التاريخ بقي ينتظر من يقف عنده، ويجلو أبعاده في الذي له والذي عليه ؛ ذلك ما يتّصل بمن ثار على الدولة القائمة مدافعًا عنه الظلم مطالبًا بما له من شرط الحياة ؛ ولقد وقف فيصل السامر ، في سنة 1952 ، عند الزنج في ثورتهم في البصرة فدرس الأسباب والنتائج بضرب من النهج يكاد يكون جديدًا على الدرس التاريخيّ عند العرب في هذا العصر ؛ ثمّ أتى ، من بعدْ، حسين قاسم العزيز (1922- 1995) فمضى على هذا النهج في دراساته وأبحاثه ، وزاد .
ولا ريب في أنّ من يفسّر الحوادث ، في أسبابها ونتائجها، إنّما يصد عن فكر مستقرٍّ لديه ، يرى الحياة ومجراها بضوء منه ؛ وكلُّ فكر جديد إنّما هو رؤية جديدة لوقائع اليوم ، ووقائع الأمس ، وتفسير لها .
ولد حسين قاسم العزيز في الكوت ، في سنة 1922، ودرس في مدارسها ، ثمّ التحق ، من بعد إتمام دراسته الثانويّة، بدار المعلين العالية ، في بغداد ، متخصّصًا بالتاريخ . ولم يكن ذهنه مقصورًا على قاعة الدرس ، وموادّ الدار ؛ بل كان يقرأ ، ويسمع ، ويرى، ويُشارك ؛ حتّى تكامل وعيه، واتّضح نهجه ، وسلك سبيلًا ، يرضاه، في الفكر والحياة. وإذ تخرّج في دار المعلمين العالية، سنة 1945 ، عمل في سلك التعليم الثانويّ ، وزاول الإدارة المدرسيّة سنوات ، ثمّ تهيّأ له أن يذهب إلى موسكو للدراسة في سنة 1960 فازداد معرفةً ، وتمكّن من المنهج، وأدرك أبعاد الفكر الفلسفيّ الذي ينتمي إليه . وحين أراد أن يدرس شأنًا من شؤون التاريخ الإسلاميّ ليُحرز شهادةَ الدكتوراه تناول “ البابكيّة “ انتفاضةَ الآذربيجانيين على الخلافة العبّاسيّة ، في مطلع القرن الثالث الهجريّ. وهو نحوٌ من البحث التاريخيّ يختلف عمّا هو سائد من بحوث في التاريخ ، ويلتقي مع ما اختطّه فيصل السامر في دراسة “ثورة الزنج”؛ إذ يتّجه إلى دراسة أحوال الناس المغلوبين على أمرهم ، وما وقع عليهم من ظلم وجور واستعباد، فاندفعوا إلى الانتفاض ، والثورة ، ومحاربةِ جُند الخلافة؛ من أجل حياة حرّة كريمة . ولكي يتكاملَ عملُه ، ويصلَ منه إلى ماكان قد حدث، ولكي يفسّر الأحداث بأسبابها وبنتائجها ؛ رجع إلى مصادر كثيرة ممّا كُتب بالعربيّة، والروسيّة، والإنكليزيّة، وممّا كُتب بغيرها وتُرجم إليها ممّا يتّصل بمدار البحث؛ حتّى أتمّ دراسته محيطًا بأسباب الانتفاضة، ونتائجها . وهي عنده وجهٌ من وجوه الصراع الطبقيّ بين المُستغِل ، والمُستغَل ، غايتها دفعُ المظالم وإحقاق العدل .
نال الدكتوراه في سنة 1966 ، واتّجه إلى المملكة العربيّة السُّعوديّة فعمل فيها سنتين ، ثمّ عاد إلى العراق في سنة 1968 ، وعمل في كليّة التربية ، ثمّ في كليّة الآداب . وهو في كلّ ذلك يكتب في جوانب من التاريخ الإسلاميّ ، وفي ما يتّصل به بمنهج يرى في الاقتصاد عاملًا قويًّا في صنع الأحداث ، وسير التاريخ ، وأنّ صراع الطبقات هو جوهر التاريخ وقوّته الموجّهة .
ولم يصرفْه التاريخُ العربيّ الإسلاميّ عن الشأن العام القائم ؛ فأخذ ينظر في قضاياه ، ويكتب في معالجتها؛ من ذلك ما وقف به عند الدرس الجامعيّ وما انتابه من ضعف انحرف به عمّا ينبغي له ، ومنه مقالاته الموسومة بـ “ مسائل في التراث “ ، وغيرها .
وهو، مع البحث والتأليف والنشر والعمل الأكاديميّ، رجلُ سياسة ؛ زاولها منذ مطلع حياته على مبادئ وطنيّة تقدميّة تسعى إلى استقلال البلد، ومحاربة الاستعمار ، ودفع المظالم ، وإقامة العدل بين الناس، وبقي على ما بدأ حياته به حتّى وفاته .
وحين تهيّأ لصحيفة “ الفكر الجديد”، وهي أسبوعيّة ثقافيّة ، أن تصدر ؛ أُسند إليه أمرها ؛ فصدرت في 18 أيلول سنة 1972 ، وظلّت منتظمةَ الصدورِ حتّى سنة 1979 ، وظلّ هو صاحب الامتياز في إصدارها !
التقى لدى حسين قاسم العزيز القديم بالجديد، والماضي بالحاضر؛ ولكن برؤيةٍ جدليّة تاريخيّة تضع الأحداث في سياقها من الزمان والمكان ، وتفسّر الوقائعَ بما يحكم سلوك البشر من عواملَ وثيقةِ الصلة بعناصر بقائهم . وفي ظلال هذه الرؤية وضع الكتب ، وأنشأ الدراسات من أجل معرفة صحيحة بالتاريخ العربيّ الإسلاميّ .
وإذا كانت جملةُ آثاره قد صدرت في كتب ، في أثناء حياته ، فإنّ دراساتٍ له وأبحاثًا بقيت في مطاوي المجلّات بعيدةً عن أيدي القرّاء ، وإنّها إذ تكون بين أيدي القرّاء تعزّز من مكانته في الفكر ، والتاريخ ، وفي تبيّن جذور وعي الإنسان بما يُحيط به ، وتنبئ أنّ التاريخ عنده ينفتح على الإنثروبولوجيا ، ويتّصل بها ، ويأخذ أشياء كثيرة منها .
إنّ حسين قاسم العزيز ذو منحى فريد بين المؤرّخين؛ في منهجه ، واستقصائه ، ووضوح رؤيته ، وفي موقفه الإنسانيّ التقدّميّ ، وإنّ في نشر آثاره فائدةً سنيّةً للثقافة بعامّة ، وللدرس التاريخيّ بخاصّة ...