تواجه الصناعة الوطنية في العراق أزمة عميقة تهدد وجودها بعد سنوات طويلة من الإهمال وغياب السياسات الداعمة. فقد توقفت عشرات المصانع عن العمل، وتحولت المناطق الصناعية إلى مساحات شبه خالية من العمال ورؤوس الأموال. وبينما يحذر الخبراء من خطورة استمرار هذا التراجع الذي يعصف بهوية الاقتصاد، يشدد مستشارون وباحثون على أن إنقاذ هذا القطاع الحيوي يتطلب إعادة هيكلة جادة وشراكات استراتيجية، تعيد للمصانع دورها في تشغيل الأيدي العاملة، وتوفير السلع المحلية، وتقليل الاعتماد على الاستيراد الذي أغرق السوق ببضائع رديئة وأضعف المنتج العراقي.
المصانع متوقفة
أكد عامر الجواهري، مستشار التنمية الصناعية، أن العراق بحاجة ماسة إلى تحرك جاد لإعادة هيكلة الشركات العامة، مشيراً إلى أن هذه العملية بدأت منذ عام 2010 لكنها لم تتقدم بالشكل المطلوب حتى اليوم.
وقال الجواهري لـ"طريق الشعب"، إن وزارة الصناعة والمعادن تمتلك أكبر عدد من الشركات العامة مقارنة ببقية الوزارات، ما يجعلها محوراً أساسياً في الاقتصاد الوطني. وأضاف أن إعادة الهيكلة يجب أن تقوم على تصنيف المصانع بحسب أوضاعها: مصانع متدهورة كلياً، أو متوقفة جزئياً وقابلة للإصلاح، أو صالحة للاستثمار المباشر، أو تبقى تحت الإدارة الحكومية دون تغيير.
وأوضح أن كل مصنع يجب أن يُدرس من حيث منتجاته وحاجة السوق إليها وطاقة إنتاجه الممكنة والدور الذي يمكن أن يلعبه في دعم الاقتصاد. وأكد أن استمرار توقف بعض المصانع لعشرات السنين يؤدي إلى تبديد الموارد البشرية والمادية، بما في ذلك الرواتب والكهرباء والوقود، دون أي مردود إنتاجي.
وبيّن الجواهري أن جميع شركات وزارة الصناعة العامة تعمل بخسارة، باستثناء بعض المصانع مثل "الأسمدة الجنوبية" التي تحقق أحياناً أرباحاً محدودة. وأضاف أن الهدف ليس مجرد تشغيل هذه المصانع لتغطية الرواتب، بل تحريك عجلة الاقتصاد من خلال استثمار الكوادر والخبرات المتاحة، سواء عبر الإنتاج المباشر أو من خلال تقديم خدمات علمية وصناعية تدعم الاقتصاد الوطني.
واقترح الجواهري إدخال هذه المصانع في "شراكات استراتيجية" تشمل تحديث التكنولوجيا والمعدات وأساليب الإدارة والتسويق وتوسيع تنوع المنتجات وخدمات ما بعد البيع، مشيراً إلى أن هذه الشراكات قد تتطور لاحقاً إلى تحويل بعض المصانع إلى شركات مساهمة عامة، مع احتفاظ الحكومة بحصة استراتيجية لضمان استدامة الإنتاج. وختم بالتحذير من أنه في حال استمرار الإهمال، فإن المصانع ستتحول في النهاية إلى خردة تُباع مع الأراضي، وسيبقى الاقتصاد العراقي يعاني من الركود في مختلف القطاعات.
مناطق صناعية بلا رؤوس أموال
من جهته، أكد الخبير الصناعي عبد الحسن الشمري أن المصانع في العراق تعرضت خلال السنوات الماضية إلى تراجع وتخريب كبير، سواء بسبب القوانين الحكومية أو نتيجة غياب المتابعة الحقيقية من الجهات المعنية.
وقال الشمري إن المناطق الصناعية في بغداد تكاد تكون خالية من العمال ورؤوس الأموال والصناعيين، بعدما فقدت قدرتها على المنافسة أمام البضائع الأجنبية. وأضاف أن السلع المستوردة التي تغزو السوق غالباً ما تكون رديئة الجودة لكنها تباع بأسعار زهيدة، وهو ما يضعف المنتج المحلي ويخلق فجوة كبيرة في عمليات البيع والشراء، الأمر الذي انعكس سلباً على الصناعيين وأدى إلى توقف العديد من المعامل الصغيرة والمتوسطة والكبيرة.
وشدد الشمري على أن الحكومة مطالبة بتغيير سياساتها الاقتصادية لتكون أكثر دعماً للإنتاج الوطني، مبيناً أن لكل دولة هوية صناعية ينبغي الحفاظ عليها. لكنه أشار إلى أن العراق منذ عام 2003 وحتى اليوم شهد تراجعاً واضحاً في هذا القطاع الحيوي. وكشف أن أغلب المعامل المسجلة لدى التنمية الصناعية واتحاد الصناعات العراقية متوقفة عن العمل حالياً، وهو ما يمثل خطراً كبيراً على مستقبل الصناعة الوطنية وفرص النهوض بالاقتصاد.
حماية المنتج وتشجيع الاستثمار
من جانبه، أوضح الباحث الاقتصادي عبد الله نجم أن المصانع تمثل العمود الفقري لأي اقتصاد متوازن، فهي ليست مجرد مصدر للسلع المحلية، بل تسهم أيضاً في تشغيل الأيدي العاملة وتقليل نسب البطالة وتنشيط الدورة الاقتصادية داخلياً. وأكد أن غياب المصانع أو توقفها يترك تداعيات خطيرة على السوق المحلية، إذ يؤدي إلى زيادة الاعتماد على الاستيراد، ما يثقل ميزان المدفوعات ويجعل الاقتصاد هشاً أمام أي تقلبات خارجية.
وأشار نجم في حديثه إلى "طريق الشعب"، إلى أن الصناعات الوطنية ليست مجرد إنتاج مادي، بل هي عامل أساسي لتحقيق الأمن الاقتصادي والاستقلالية. ولفت إلى أن استمرار توقف المصانع العراقية منذ سنوات أضعف قدرة البلاد على المنافسة وأفقدها هويتها الصناعية، وهو ما انعكس بشكل مباشر على ارتفاع معدلات البطالة وتراجع فرص التنمية المستدامة.
ورهن الباحث إعادة إحياء المصانع بوضع "استراتيجية حكومية واضحة" تقوم على حماية المنتج المحلي وتشجيع الاستثمار الصناعي، مع فرض معايير صارمة على الاستيراد لمنع إغراق السوق بالبضائع الرديئة.