يشكّل الإنفاق الحكومي المتضخم المعضلة الأخطر التي تواجه المالية العامة في العراق منذ سنوات، إذ باتت الرواتب والمخصصات التشغيلية تبتلع النسبة الأكبر من عوائد النفط، فيما تراجع الاستثمار التنموي إلى مستويات شبه معدومة. وبرغم التحذيرات المتكررة من خبراء الاقتصاد والمؤسسات الدولية، استمرت الحكومات المتعاقبة، والحالية أيضا، في توسيع قاعدة التعيينات وتوزيع الامتيازات من دون إنتاجية حقيقية، الأمر الذي حوّل الموازنة العامة إلى أداة للإنفاق الاستهلاكي والترضية السياسية، بدلاً من أن تكون وسيلة للنهوض الاقتصادي والاجتماعي.
وطبقا لمراقبين، فإن جميع القطاعات العامة، ترتبط بشكل وثيق بسوء التخطيط والإدارة، وبالفساد وهدر المال العام، الامر الذي يجعلها في مواجهة اختلال مزمن، يهدد بانهيارها في اية لحظة.
وكشف الانخفاض الأخير في أسعار النفط، عن هشاشـة الوضع المالي للدولة، وتفاقمت المخاوف من دخول البلاد في عجز متنامٍ قد يدفعها إلى الاقتراض أو إلى فرض إجراءات تقشفية قاسية.
وقال عضو مجلس النواب مصطفى الكرعاوي، تعقيبا على تأخر رواتب المتقاعدين، ان "الخزينة العامة للدولة لا تمتلك رصيداً استراتيجياً كافياً، وأن الحكومة لا تعترف بأزمة السيولة".
وعلل الكرعاوي الأزمة المالية بـ"غياب الخطط الاقتصادية، واستمرار الاعتماد على النفط".
انفاق متضخم
وفي هذ الشأن حذر الخبير الاقتصادي عبد الرحمن الشيخلي، من ان الانفاق الحكومي في العراق بات يمثل الخطر الأكبر على استقرار المالية العامة، مؤكداً أن التوسع غير المبرر في التعيينات، ومعظمها بلا جدوى إنتاجية، يفاقم حجم الضغط الاقتصادي.
وقال الشيخلي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن تقارير دولية من بينها تقرير صندوق النقد الدولي تؤكد أن معدل ساعات العمل الفعلية للموظف الحكومي في العراق لا يتجاوز ربع ساعة يومياً، وهو ما يعكس عبئاً هائلاً بلا مردود حقيقي.
وأضاف الشيخلي، أن "تراجع أسعار النفط الأخيرة جعل عائدات البلاد بالكاد تغطي الرواتب والمخصصات التشغيلية، دون أي مجال للاستثمار أو التنمية"، معتبرا أن "استمرار صرف المخصصات الضخمة للدرجات الخاصة، رغم انخفاض الإيرادات، يمثل مفارقة صارخة. وكان الأجدر بالحكومة أن تبدأ بخفض هذه الامتيازات بدلاً من تركها عبئاً ثقيلاً على الخزينة".
ونبه الى أن العراق "مقبل على التزامات مالية خفية ستفاجئ الحكومات المقبلة، ناجمة عن مشاريع استثمارية نُفذت بالدفع بالآجل مع شركات أجنبية، ما يعني أن الحكومات القادمة ستجد نفسها مطالَبة بسداد مبالغ ضخمة في السنوات المقبلة، سواء عبر تخصيص كميات من النفط أو بوسائل دفع أخرى، وهو ما سيشكل ضغطاً جديداً على الاقتصاد المنهك".
وبيّن أن الإنفاق العشوائي والاتفاقات غير المدروسة سيجعلان العراق عرضة لأزمات متتالية، مؤكداً ان الايرادات غير النفطية – رغم ارتفاعها مؤخراً الى نحو 14%، وقد تصل ربما الى 20% – لكنها ما زالت غير قادرة على تغطية الانفاق المتضخم".
وأشار الشيخلي إلى أن الأزمة في العراق لا يمكن القول انها مالية فقط، بل هي سياسية وانتخابية أيضاً، إذ تحوّل التعيين والإنفاق الحكومي إلى أداة لشراء الولاءات وكسب الأصوات الانتخابية، وهو ما كرس ثقافة الهدر والمحاصصة على حساب التنمية الاقتصادية.
ولفت إلى أن "الحملات الانتخابية للأحزاب والمرشحين تكلف ملايين الدولارات، في وقت تعجز فيه الدولة عن دفع مستحقات بعض دوائرها لأكثر من 11 شهراً".
وانتقد الشيخلي بشدة إعداد الموازنات العامة، مبيناً أن الموازنة الثلاثية التي أُقرت عام 2023 اعتمدت سعراً مبالغاً فيه للنفط بلغ 85 دولاراً للبرميل، رغم تحذيرات صندوق النقد الدولي بضرورة عدم تجاوز سقف 60 – 65 دولاراً.
وقال إن الحكومة وقعت في “الفخ” عندما انخفضت الأسعار الى ما دون 70 دولاراً، لتجد نفسها أمام عجز مالي ضخم يصعب تغطيته، وهو ما يفسر تأخر إقرار موازنة 2025 حتى الآن.
وخلص الشيخلي الى القول إن المشكلة الجوهرية في العراق تكمن في غياب التخطيط الحقيقي، مؤكداً أن إدارة الدولة منذ 2003 وحتى اليوم تسير بعشوائية كاملة، من دون حسابات دقيقة أو إستراتيجيات واضحة، ولذلك جاءت النتائج كارثية بهذا الشكل.
الرواتب تبتلع عوائد النفط
الى ذلك، اشار الخبير في الشأن الاقتصادي زياد الهاشمي، إنّ العراق يواجه تحدياً مالياً خطراً مع بداية العام الحالي، بعد التراجع التدريجي في أسعار النفط، ما أدى إلى هبوط عائداته الشهرية من النفط إلى أقل من 7 مليارات دولار.
ونوه الهاشمي في حديث مع "طريق الشعب"، الى أن هذا الانخفاض "ترافق مع استمرار تضخم الإنفاق العام من دون ضوابط، نتيجة الارتفاع الكبير في مدفوعات الرواتب والإعانات والكلف التشغيلية الأخرى، الأمر الذي وضع المالية العامة للدولة تحت ضغط غير مسبوق".
وأضاف الهاشمي، أن هذا الوضع "سيدفع الحكومة للجوء مجدداً الى زيادة الاقتراض وإصدار حوالات خزينة أو سندات حكومية لتغطية العجز المتنامي".
ونبه الى ان هذا "يكشف بوضوح هشاشة الاقتصاد العراقي وانكشافه أمام أي صدمات مالية ناتجة عن تقلبات أسعار النفط، في ظل غياب أدوات وقائية وصناديق مالية تحمي الموازنة من مخاطر الاعتماد الريعي.
ولفت كذلك الى ان الموازنة الثلاثية "أُقرت على أساس أسعار نفط مرتفعة مع حجم إنفاق كبير وعجز يُفترض أنه مسيطر عليه، لكن هبوط الأسعار الى ما دون 70 دولاراً للبرميل أربك الخطط المالية للحكومة وأدخلها في عجز عميق، “لن يكون من السهل التخلص منه في المدى القريب”، على حد تعبيره.
خزينة شبه خاوية
من جانبه، قال أستاذ الاقتصاد الدولي نوار السعدي، ان الأرقام تكشف صورة واضحة ومقلقة لحجم وطبيعة الخلل المالي الذي يواجهه العراق.
وأضاف السعدي في حديثه لـ"طريق الشعب"، أن "إجمالي الرواتب في النصف الأول من عام 2025 بلغ نحو 50 تريليون دينار، فيما لم تتجاوز إيرادات النفط 65 تريليونا"، ومعنى هذا أن قرابة 77 في المائة من عوائد النفط تكون من حصة الأجور، ما يترك الموازنة عاجزة عن تمويل الإنفاق الاستثماري أو تكوين احتياطيات مالية، وحتى عن تغطية الالتزامات الأخرى مثل السلع والخدمات والدعم والديون الخارجية، وهو ما يجعل الخزينة شبه خاوية رغم ارتفاع الايرادات".
وأضاف السعدي، أن العجز في العراق "يكمن في الاختلالات الهيكلية، وفي مقدمتها تضخم كتلة الأجور والتقاعد، وتوسع الجهاز الإداري بما يتجاوز قدرة الاقتصاد على التمويل، فضلاً عن الاعتماد المفرط على النفط مع ضعف القاعدة الضريبية والرسوم، وانخفاض تحصيل الايرادات المحلية، إضافة إلى الفساد والهدر وسوء الإدارة الذي يستنزف الموارد بلا أي مردود تنموي".
وأشار إلى أن هذه المعادلة "تعني غياب الاستثمار الحقيقي في البنى التحتية والمشاريع الإنتاجية، وإبقاء الاقتصاد رهينة للنفط وتقلبات أسعاره"، محذرا من ان أي "هبوط في سعر البرميل بمقدار خمسة دولارات فقط قد يحوّل الواردات المالية الى فجوة بعشرات المليارات من الدنانير، ويدفع الدولة الى الاقتراض أو السحب من الاحتياطيات أو اللجوء لسياسات تقشفية قاسية".
وانتقد السعدي الموازنات الثلاثية التي وُصفت بالضخمة، مؤكداً انها "فشلت لانها لم تترافق مع إصلاحات هيكلية جدية، وبقيت مجرد موازنات تشغيلية قصيرة المدى تعتمد على ريع متقلب وتخضع لأولويات سياسية آنية بدلاً من أن تكون أداة للتنمية المستدامة".
واعتبر أن الحل يتطلب إعادة هيكلة الأجور والحد من التوظيف غير الضروري، وتوسيع الإيرادات غير النفطية عبر إصلاح النظام الضريبي والكمارك، وتفعيل ضريبة على أصحاب الثروات الكبيرة، مع رفع كفاءة الإنفاق العام. كما شدد على ضرورة تأسيس صندوق سيادي يعمل كعازل ضد تقلبات السوق، وتوجيه الموارد نحو مشاريع إنتاجية وشراكات مع القطاع الخاص لخلق فرص عمل مستدامة.
وخلص الى القول ان العراق "يواجه أزمة بنيوية عميقة تحتاج الى إعادة صياغة أولويات الإنفاق وإدارة أكثر كفاءة وشفافية، حتى لا يبقى الاقتصاد أسيراً لتقلبات أسعار النفط".