اخر الاخبار

يمكن أن نعدَّ رحيل الروائي والقاص احمد خلف رحيلا لشاهد من شهود سرديات الزمن العراقي، إذ اصطنع عبر لغته وجودا موازيا لتاريخ البلاد، في عنفها السياسي والفكري، في صراعها وحروبها واستبدادها، حتى بدا لنا وكأنه يكتب شهادة الحكواتي الذي يرى العالم من خلال اللغة والحكاية والسير..

بين  التاريخ والسيرة  تتحول الكتابة الى لعبة بالغة الخطورة، لأنها ستضع التاريخ امام غواية السرد، مثلما تجعل السيرة مدفوعة الى التورية على وثائق واسرار تدخل في المسكوت عنه، والتي لا تنفصل كثيرا عن التاريخ، وهذا ما يُعطي للساردين نوعا من البطولة الفائقة، والمكر في التدوين، وفي جعل وحدات الزمن والمكان والشخصية داخل نصوص يتكثف فيها التاريخ والسيرة، مثلما يحضر فيها السرد بوصفه الدينامي الذي يجعل تلك النصوص جاذبة للقراءة، وللوحدات فاعلة عبر وظائف تجعل من السرد موازيا للتاريخ..

احمد خلف من اكثر ساردينا عناية بالسيرة، وبتاريخ الشخصية، إذ دأب على منحهما طاقة تتجاوز المألوف، الى الغرائبي، وتقوض الواقع لصالح لعبة السرد في اثارة الادهاش، حيث يتحول الزمن السردي الى زمن سياسي، أو زمن نفسي، وكذلك يتحول المكان الى بيئة يحركها الصراع السردي وليس التاريخ، فضلا عن اكساب الشخصية بطولة خرق العادي والمألوف، لتبدو شخصية استثنائية، في تمثيلها للبطل اللامنتمي، المتمرد، القلق، الذي يعيش هواجس "الوعي الشقي" عبر اغترابه الوجودي، وعبر بحثه عن الغائب، وعن الاشباع الجنسي، إذ هو أنموذج البطل "نصف الثوري" لكنه المتمرد على واقعه، وعلى اوهام العالم وخيباته، وعلى نحو يجعله بطلا يدون سيرته من خلال سيرة وعيه، مثلما يرقب تاريخ العالم من خلال تاريخه الشخصي..

القص ولعبة السرد..

منذ أن كتب قصته "خوذة لرجل نصف ميت" وهو يهجس بكراهية بطله المهزوم في حربه القومية، وعدّها هزيمة وجودية لجيل كامل، ولرمزية البطل المثقف الذي يحلم بانتصارات احلامه الثورية والايديولوجية، وصولا الى هزيمة "تاريخ" عربي، جعله يتمرد على سيرته، ليكتب نصه الاحتجاجي، تمثيلا لهواجسه في تقويض فكرة الانتماء المعطوب، ولعل قصصه في مجموعة "نزهة في شوارع مهجورة" جسدت كثيرا من خيبة هذا البطل في المكان والخطاب والوعي..

ظلت لعبة القص في كتابات احمد خلف مكشوفة على التجريب، وعلى مقاربة الزمن السياسي والنفسي من خلال شخصياته المضطربة، فهي شخصيات اضحوية، مأزومة، ففي روايته "الخراب الجميل" جعل من شخصياته تواجه عقد المدينة والحرية والانتماء، كاشفة عن صراع عميق في دواخلها، حيث تعيش تداعياتها عبر وعي وجودي قلق، تتمثله افكار الاغتراب، والبحث عن الذات والهوية، حتى يبدو "خراب الواقع" هو قناع لخراب داخلي أكثر مما هو تمثيل لخراب خارجي، حيث يصنع وعيه الظاهراتي صورا تجعل من هذا الخراب الرومانسي والثوري، هو الاقرب الى حساسية بطله "الوجودي" الذي يحلم بالثورة والاشباع الجسدي، وحتى روايته "موت الأب" لم تخرج عن هذا الاستغراق الذي يجعل من بطله المسكون بهوس فرويدي، باحثا عن ذاته وعن خلاصه وتطهيره وذلك بـ وضع هويته السردية على حساب هويته في الواقع، حتى تأخذ مدونته عن السيرة وعن تاريخه في المدينة مسارا تعكس ازمة هذا البطل في وعيه وليس في الواقع..

 

احمد خلف والشخصية المطاردة..

شغف احمد خلف بتخليق الشخصية السردية جعله اكثر انحيازا للشخصية القلقة، ذات المرجعيات الكاموية، والتي تجد في قلقها الوجودي تمثيلا لأزمة ذلك الانتماء، وللعلاقة الشائهة مع السلطة بحمولتها الرمزية، بوصفها سلطة العنف والحرب والعصاب والاستبداد، ففي روايات "تسارع الخطى" و" الذئاب على الابواب" تتبدى الشخصية المطاردة وكأنها تحمل معها محنة قلقها إزاء الآخر، ككنايةٍ عن محنة وعيها واغترابها، فالآخر هو الغرائبي، هو العدو الوجودي الذي يجعل من ثيمة المطاردة لعبة في تغذية السرد باستيهامات داخلية للشخصية، تتحول مدونته فيها الى سيرة داخلية تقوم على تسجيل يومي لتحولاته العميقة، ولصور علاقته مع الآخر الشبحي المختفي في العتمة والنص والفكر، وعلى نحو تكون فيه المدونة السردية أكثر استغراقا في اصطناع سرديات مجاورة لأفعال الترقب، والخوف والانتظار..

عرض مقالات: