ما أثاره الدكتور عبد العظيم السلطاني في مقالته "لجان مناقشة الرسائل الجامعية ليست لجان اغاثة" المنشورة في جريدة طريق الشعب في عددها المرقم (67) والصادر في 14 ك2/ 2025 .. تكشف عن اشكاليات معقدة في واقعنا الجامعي، وعن تشوهات علمية داخل الفضاء الاكاديمي، تستدعي النقد والمراجعة، مثلما تخص تطوير تقاليد الدرس العلمي، على مستوى المناقشة والتقويم، وعلى كل ما يجعل الدراسات العليا تحظى بالتقدير العلمي..
حظوة التخصص هي امتياز معرفي، لكن الوصول اليها ليس صعودا سهلا على السُلّم، والاكتفاء بالفرص المتاحة داخل الزمن الدراسي، بقدر ما تعني الاقرار بمسؤولية ذلك، من خلال تأطير الدرس العلمي والبحث الاكاديمي في الدراسات العليا، عبر اجراءات تجعل منه مجالا لاكتساب الاهلية، ولممارسة فعل التخصص من خلال انضاح مسارات اختيار الرسائل والاطاريح التي تتم مناقشتها والبتّ بها، إذ تتطلب هذه الممارسة وجود بيئة علمية مناسبة، وتخصصات فاعلة تملك القدرة والأهلية على مناقشة مشاريع التخصص المقبلة، من خلال العمل على تأمين سلسلة من الاجراءات التي تبدأ من الهيكل المؤسسي للدراسات العليا، المسؤول عن اختيار العناوين ومناقشة لجان الاقرار والتسجيل والاشراف، وصولا الى لجان اختيار المناقشين عل وفق مواصفات علمية دقيقة، بعيدا عن الحسابات والحساسيات، وحتى عن العلاقات وسياسة "سد الفراغ" والتي ستؤثر بشكل أو بآخر على قياس وجدوى الأهلية والجدية والحرص والكفاءة.
قد يكون ما طرحه السلطاني محددا ب" لجان المناقشة" لكني أجد أن المشكلة اعمق من ذلك، والتي تخص توصيف هذه المشكلة التي كثر الحديث عنها، وعن طبيعة الاستعدادات العلمية التي لها علاقة بالبناء المؤسسي، وبمسؤولية تأهيل اجيال جديدة من الاكاديميين الذين يمكن أن يقودوا التعليم الجامعي الى آفاق جديدة، لكن حقيقية وناجعة.
صحيح أن لجان المناقشة هي المسؤولة عن التقويم، وعن اعطاء الاهلية، لكن الاختيار الدقيق والعلمي، ولتاريخ الاستاذ المُناقِش في هذه اللجان هي المشكلة التي تُغيّب عن مسؤولي الدراسات العليا، وبالشكل الذي يجعلها وكـأنها طقس عابر، يفتقد الى العلمية والى فاعلية المراجعة والمناقشة، والتي كثيرا ما يختل فيها التوازن بين مؤهلات بعض" الاساتذة" المعنيين بمشروع المناقشة، وبتكامل الحرص على تقويم المكتوب في الرسائل والاطارح، دون التدخل المباشر بها، وتقديم مناقشات استعراضية، يكون فيها التجاوز على " اجتهاد الطالب الباحث" وتخطئة بعض افكاره، ودعوته الى اعادة صياغة بحثه، في الوقت الذي ينبغي للباحث أن يتحمل مسؤولية رسالته أو اطروحته، لكي تطبع وتكون موضع قراءات عمومية تحضر فيها شخصيتهم العلمية والاكاديمية، وليست شخصيات المناقشين. واحسب أن هذا الأمر يخص فاعلية "المشرفين" ومدى حرصهم على الباحثين، وعملهم على ان تكون لهم شخصية علمية في اجراءات البحث، وأن يتحملوا مسؤولياتهم في التوجيه، وفي تزويد الخبرة، وليس في التدخل المباشر، وحتى حضورهم في المناقشات ينبغي أن يكون دفاعا عن حق الباحث في الكتابة، وفي اثارة الاسئلة، وصولا الى التدريب على الاجتهاد في كتابة الأطروحة، وعلى نحوٍ يجعله يتحمل مسؤوليته في هذا المجال..
تحويل مجال المنافشة الى "مجال امتحاني" يعكس خللا في توصيف فضاء المناقشة، فالمفروض أن الباحث ومشرفه قد وضعا خطة بحث كاملة، مع فصول ومباحث ومراجع مؤهلة للدخول في سياق التنفيذ، وأن مناقشة اللجان تتم على ضوء ما مكتوب، وعلى مدى القناعة العلمية به، وبالتالي رفضه أو قبوله، دون اخضاعه الى الترميم، وبهذا فإن الباحث سيفقد اهليته في التأليف، ويفقد البحث خصوصيته في حقوق الملكية الفكرية، واحسب أن تحويل المناقشة الى استعراض شفاهي يعطي انطباعا بالمجانية، ومن حق الاستاذ المناقش في اضافة افكاره ضمن مرجعيات الرسالة او الاطروحة، وأن تكون الملاحظات مكتوبة حتى تكتسب جديتها، مع اعطاء الباحث الحق في الدفاع عن افكاره، ومدى ملائمة افكار المناقشة مع سياقات بحثه..
إن تقويم مشاريع المناقشة من اكثر التحديات التي تواجه تشييد مشروع التخصصات العلمية ومدّها بدماء جديدة، وهذا ما يستدعي تخطيطا علميا صارما، يؤكد مسؤولية المؤسسة عن تاريخها العلمي، وعن رصانة درسها وتخصصاتها، وعن اختيار العناوين التي تسهم في تجديد الافكار واغنائها بالرسائل والاطاريح المناسبة، وعلى وفق تقاليد صارمة تحدّ من العشوائية، ومن السهولة في قبول هذا العنوان أو ذاك، فضلا عن تدريب الباحثين الجدد على اليات متطورة للبحث العلمي، وبالاتجاه الذي يجعلهم اكثر شجاعة في مواجهة تحديات المستقبل وتحولاته، وفي تحمل مسؤولياتهم عن الافكار والمشاريع التي يتبنونها من خلال كتابة اطاريحهم بشكل خاص..