اخر الاخبار

إن الكتاب الأخير للحائز جائزة نوبل الشاعر والمغني بوب دِيلِن (فلسفة الأغنية الحديثة) بمثابة مقرر تعليمي للإستمتاع الموسيقي منشور لعامة الناس. يكفي القارئ أن يتذوق فصلاً واحداً منه، أغنية واحدة، مصحوبة بقائمة الإداءات التي مرت بها خلال سنوات (الكتاب مصحوب بقرص). كنا في الجامعة نرتاد مثل هذا المقرر يلقي محاضرته البروفيسور ميشكين، فنستمع مثلا الى أغنية منتصف الليل (معزوفة للفنان تشيك كوريا) فيما يعلق ميشكين بين الحين والآخر ذاكرا مقتطفات شعرية ليساعد تذوقنا لها على الإكتمال.

إن بوب ديلن الآن في الواحدة والثمانين من العمر، أكبر سنا من ميشكين في ذلك الوقت. كتب عن جيله قائلا :" أنت تنظر الى ما تحت أنفك الى مجتمع لا تعرف ما فائدته لك. لا تريد أن تكون عجوزا وعاجزا، كلا شكرا. سأرفس الدلو قبل أن يحدث هذا. أنت تنظر الى عالم يتغنغر يأسا". هكذا بدأ ديلن يدور في الأنحاء ليس بكرسي العجزة بل بالحافلات، متنقلا من مدينة الى مدينة، ومن قارة الى قارة ﺑــ " جولة حفلات لا تنتهي أبدا" وأقرب نهاية ممكنة إذا حلت ففي العام 1988، وبعد توقف خلال وباء كورونا عاد في العام 2020 ليهيئ لحفلته (طرق وعرة ومشاكسة) مقررة التنفيذ في العام 2024 يقول بصددها :" لهذه الأغنية وجهة نظر فلسفية"، وفي فصله (ويلي الغجري المتجول) يتحدث عن ويلي تشيفر ويقول :" واصل التحرك، هكذا أفضل، دع القطار يستمر في الدوران. إنه أفضل من شرب البيرة والبكاء. هيا، هيا الى الأبد. دعنا نتحرك الى أن يعود العصر الجليدي".

استمتعت بدروس ديلن ولكنها غريبة، فمثلا هو يؤدي لنا أغنية من الخمسينيات (روبي، هل أنت مجنون؟) للأخوين أوزبورن برذرز، مشبها أغاني تلك الفترة (المسماة أغاني بلو غراس) بالحديد الثقيل " شكلان من الموسيقى لم يتغيرا لا بصريا ولا سمعيا خلال عقود"، وفي الشريحة التي يعرضها لنا نرى رجلا يطلق النار على آخر هزيل القوام ليصيبه في بطنه ببندقية. كل فصل من فصول (فلسفة الأغنية الحديثة) نوع من خارطة رموز ترافقها شروحات. لا بد أن اغتيال كندي كان في بال ديلن عندما أعد لأغنيته الأطول (الإغتيال الأكثر قذارة) من برنامج حفلته (طرق وعرة ومشاكسة)، والروافد أيضا تصب في هذه الفصول، فهو يزامن مع اغتيال كندي تناوله لنسخة بوبي دارين لأغنية (استخدم السكين كماك) وهي توظيف لحكاية شعبية عن قاتل بالسكين اسمه ماكبث، مشبها دارين بقطعة نفاية منبوذة بعكس سيناترا الذي غنى في حفل ترشيح " بوبي شقيق الرئيس الشهيد"، فكلاهما قد هزهما اغتيال كندي من الأعماق. يكتب ديلن بأن " خيبتهما متماثلة، وتوجد تماثلات أخرى، أيضا، ولكن تجدونها فقط في العالم الميتافيزيقي".

كما كتب فروست " طريق يقود الى طريق"، فإن الفصول الستة والستين تقدم لنا موسيقى من ستيفن فوستر الى وارن زيفون مترابطة بلا نظام محدد. الفصول الثلاثة الأولى تحتفي بأغنية بوبي بير (مدينة ديترويت) من سنة 1963، وأغنية ألفيس كوستيلو (ضخها) من 1978 ، وأغنية بيري كومو (بدون أغنية) من 1951: نغمة ريفية متقلبة، وفورة نشاط ناتئة، وأغنية كان يؤديها جداي في حجرة الجلوس حين قدم المزارعون فوق الجسر، ولكن من بين ستة وستين اختيارا يوجد ثلاثون منها صدرت في العام 1947 حين كان ديلن بعمر الست سنوات، ويوجد تسجيل، تسجيل ريفي هو أغنية يسمونها (الإنجراف بعيدا عن الشاطئ) جعلني صوتها أشعر وكأني شخص آخر. في ذلك الزمن كان علينا أن نستمع في وقت متأخر من الليل الى إذاعات من أماكن ريفية بعيدة لنستطيع سماع الأغاني.

لكن نواة (فلسفة الأغنية الحديثة) متعددة الألوان هي أغاني الخمسينيات، ومع ذلك، كنا نتوقع أن نجد أغاني لوودي كوثري أو ليد بيلي (مغنيان ملتزمان شهيران، الثاني زنجي، تأثر بهما ديلان جدا) في كتاب عن الموسيقى الأميركية كتبه أحد تلامذتهما المهمين غير أن ديلن انصرف عنهما الى تجربة بوبي زمرمان السماعية، وجوني راي الذي قال عنه لسكورسيزي بأنه " كان له تأثير علي من صوته كالتعويذة كما لو كان مؤمنا بفوودوو (دين من هايتي)". إن صوت راي بالنسبة اليه صوت " ملاك مدمر خرج ليسير في طرقات المدن القذرة".

إن العديد من الأساليب في هذه المجموعة من الأغاني سابقة للروك أند رول وبعضها منبئة به، وقد كان لجوني راي هذا الاستباق التحولي لنجم الروك، المنخرط في البكاء خلال إدائه، وقد ذكر ديلن في فصل راي عددا من المغنين المنخرطين في البكاء أثناء إدائهم تحت عنوان (أولئك الذين يبكون)، ولم توجد مثل هذه القائمة عن الذين يتصايحون ويسخرون ويتأنقون وهؤلاء عادة ما مثلوا المظهر الأكثر تطرفا عاطفيا، وقد وجدنا في الكتاب مغنين أقل غضبا في النبرة مما نتوقع من ديلن الذي كتب أغنية (سيسقط مطر شديد) وغناها. إننا حين ننظر الى ديلن الآن حتى بما يرتديه نعرف أنه يضع نفسه خارج أغانيه تلك المتوحدة، وفي الحقيقة فإن (فلسفة الأغنية الحديثة) يمكن قراءته كجولة سياحية. يبدو ديلن بأنه يفكر بأنه تجاوز اسطورته، لم يعد في زمن أجهزة المذياع الخشبية ومحطات البث 50 ألف واط والثقافة الكرنفالية والعلكة وروبيرت بليك والممثلة تويزدي بليك، وتراجع شكسبير مخلفا بضعة عناوين لأغاني ديلن ... (الجريمة الأكثر قذارة) و (خطايا الأب) ومثله والت ويتمان.

إن بوب ديلن ليس مثل البروفيسور ميشكين بل هو من النوع الذي يسمونه بروفيسور الشهرة، الذي يذهبون ليرونه هو أكثر مما هم ذاهبون ليسمعوا ما يقول. من الطريف أن نلاحظ أنه لم يتحدث بوضوح عن موسيقاه هو إلا مرة واحدة، ولم يضع إطلاقا أي فصل خاص لأي موسيقي من الذين عزفوا له في حفلاته المهمة لسنتي 1975- 1976. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

The New York review

The philosophy of modern song by Bob Dylan

عرض مقالات: