اخر الاخبار

كانت ليلة خريفية في السهل، وطيات ثقب الدخان في أعلى الخيمة المخروطية جعلها النسيم الهاب تخفق بلطف، ومن سماء الليل الخفيضة، بنقاطها النارية التي لا تحصى، اختلسَ النظر نجم لامع كبير، من ثقب الدخان، من بين الطيات الخافقة في أعلى الكوخ البيضوي، الى امرأتين في الخيمة من قبيلة داكوتا وهما تتحدثان في الظلام.

كانت الشابة عذراء ذات عشرين صيفا، على فراش من العشب الناعم، تتشرب بعينيها اليقظتين من الجدول العذب الذي ينحدر نحوها من النجم عبر الفتحة في أعلى الخيمة، وعلى الجانب المقابل، وراء المستوقد الذي في وسط الخيمة، تمد الجدة بساطها، لكنها ما أن تتمدد حتى تجعلها الرغبة في سرد قصة تنهض الى وضع الجلوس.

كانت عيناها مغمضتين إغماضا محكما، تضرب براحةٍ نحيفةٍ شعرَها الذي تلاعبت به الريح. كررت بصوت مرتجف عالي النبرة :" أجل يا حفيدتي، تقول الأسطورة بأن النجوم الكبيرة اللامعة محاربون شيوخ حكماء، والنجوم الصغيرة الباهتة شجعان صغار جميلون".

وتقول الشابة متأملة وهي تلفظ كلماتها ببطء :" إذن ذلك الذي يختلس النظر من هناك عبر ثقب الدخان هو جدي العجوز العزيز". صوتها الناعم ينساب من خلال الظلمة داخل الخيمة، من فوق رماد بارد مكوم في المستوقد، ويدخل أذن المرأة العجوز الدرداء التي تجلس خرساء في تأمل صامت، ومن ذلك المكان تحلق في تأملها بأكثر الأجنحة رشاقة عبر ثلوج شتاءات عديدة، الى أن تصل أخيرا وتدخل الأجواء الآسرة المفعمة بالدفء التي كان فيها جد الفتاة شابا، فتستجيب لتأملاتها وتقول :" انصتي! ها أنا وقد عدت لشبابي ..."

" كان ذلك اليوم هو اليوم الذي مات فيه جدك. أقصد الجد الأكبر لأن هناك اثنين. كانا كالتوأمين، مع أنهما لم يكونا شقيقين. كانا صديقين، متلازمين! كانا يتشاطران كل الأشياء، صالحها وطالحها، عدا شيء واحد، اختلفا عليه فأصابهما بالجنون. في نوبة الجنون المستعرة تلك ذبح الأصغر سنا صديقه الأكثر حميمية، قتل أخاه الأكبر، وقد كان بمثابة أخ أكبر لأن محبتهما لبعضهما بعضا جعلت علاقتهما علاقة قرابة لزمن طويل..".

ضعف صوت المرأة العجوز. همهمت من بين أنفاسها، وهي تهز الى الأمام والى الخلف كتفيها المحدودبين، بكلمات عجب مزهوة. عيناها المغلقتان إزاء الليل حملتا خلف جفونهما ضياء الأيام الخوالي. شاهدتا من جديد غيمة سوداء متدحرجة تنشر نفسها فوق الأرض، وسمعت أذنها الدمدمة السحيقة للعاصفة في الغرب. طأطأت رأسها بخوف، فيما صاحت طيور الرعد في السماء. أنّت العجوز الدرداء وقد أعادت اليها الشعور بالغضب صيحة (لا! لا!) (1). غير أن السكينة التي تلت الغضب معبرةً عن الزهو، عندما يجعل إشراق الشمس الأصفر الناس سعداء، أغرت ذاكرتها بالمضي قدما عبر العاصفة... هتفت بقوة قائلة " كم يدق قلبي سريعا، وعاليا، وأنا أصغي لحكاية الرُسُل الرهيبة! أسرع الرجل القتيل خارجا من القبر الطري متوجها الى كوخنا. تربع بتروٍ، وهو يجلس بلا استئذان الى جوار أبي الذي يدخن بغليونه الطويل. ما أن التقط أنفاسه، وهو يلهث، حتى شرع قائلا :" كان ابنا وحيدا، وأخا عزيزا"، وبعيون مرتابة بنظرات هائجة رمقني كما لو أني كنت متآمرة عليه مع القاتل الذي هو حبيبي. نفث أبي نفسا طيب الرائحة من الدخان وهو يقول : (أهلا) (2) ثم قال مقاطعا ما كان يريد حامل الحكاية دائري العينين قوله :" هل تدخن يا صديقي؟"، وأمسك الغليون من وعاء التبغ ووجه أنبوبه الطويل نحو الرجل، فرد الرجل :" أجل، أجل يا صديقي"، ومد ذراعا طويلة سمراء...

" أطلق نفثات كخفقان القلب من الدخان الأزرق الذي تدلى بيننا كالغيمة، ولكن حتى من خلال ضباب الدخان رأيت عينيه حادتي السواد تلتمعان وهما تنظران نحوي. تقت الى أن أسأل أي قدر ينتظر القاتل الشاب ولكني لم أجرؤ على أن أحرك شفتي خشية أن أنفجر بالصراخ بدلا من أن أطرح السؤال.

بادر أبي بالسؤال فأجاب الرجل وهو يعيد الغليون :" أوه، إن الزعيم ورجاله المختارون تداولوا بينهم، وتوافقوا على أنه ليس وضعا آمنا أن يُترك قاتل إنسان حرا طليقا بيننا. إن من يقتل أحدا من قبيلتنا هو عدو، ويجب أن يلقى مصير العدو". لقد خفق صدغاي كأنهما قلبان على جانبي وجهي! وفيما أنا أصغي، مر منادٍ بخيمة أبي، وهو يتمايل مع وقع حوافر حصانه البوني، وأعلن بصوت عال هذه الكلمات، انصتي! أنا أسمع كلماته الآن :" أخرجوا!(3) انصتوا، أيها الناس جميعا. لقد أُقترف فعل رهيب. صديقان – أجل، صديقان من القلب – تشاجرا. الآن واحد ينام مدفونا على التلة، بينما الآخر يجلس، قاتل بشر، داخل مسكنه. يقول زعيمكم من يقتل واحدا من قبيلتنا فهو يقترف عدوان عدو. كذلك يجب أن يكون مُمْتَحناً. فليختر والد الرجل الميت أسلوب تعذيبه أو سلبه حياته. لقد عانى الأب ألما ممضا، وهو وحده القادر على أن يقرر كيف يجب أن يكون العقاب عظيما للانتقام من فعلته". قضي الأمر..... " تعالوا، كلكم، لتشهدوا حكم أبٍ على من كان مرة خير صديق لولده. تم الآن اصطياد حصان بوني بري ويجب على قاتل الرجل أن يمتطي الحيوان الشرس. قفوا جميعا في صفين متوازيين من الخيمة المركزية للعائلة المنكوبة الى الكوخ البيضوي المقابل في الحلقة الخارجية الكبرى. بينكم في الحيز الواسع يكون طريق المحنة المحدد. على الفارس أن يمتطي حصانه من الدائرة الخارجية ويوجهه نحو الكوخ المركزي، وإن مضى المسافة كلها حتى يصل الكوخ المركزي وهو لا يزال على ظهر حصانه البوني سينجو بحياته ويحصل على العفو المقرر، ولكن إذا سقط عنه فسيكون هو نفسه اختار الموت".

توقف المنادي عن الكلام، وخيم الهدوء على القرية مكتومة الأنفاس. ثم أسرعت نسوة يشهقن بالبكاء شاقات طريقهن عبر الحشيش العالي نحو درب المحنة، وكان الأنين المكتوم في أنحاء المخيم لا يمكن تحمله. ركضت مع الحشد ووجهي مستور ببطانيتي نحو المكان المكشوف في الدائرة الخارجية لقريتنا. وقد قام خلال لحظة صفان من الناس مهيبي الوجوه بالوقوف متقابلين لتحديد درب المحنة العلنية. آه! أرى رجالا أقوياء يحاولون توجيه البوني المربوط بالحبل، يتقدم خطوة أماما ثم يعود خلفا، والزبد الأبيض يتطاير من فمه. خنقني الألم وأنا أتبين حبيبي الوسيم وحيدا وحدة فاجعة، يسير بخطى واسعة وقد بدا على وجهه العزم نحو البوني المقيد. صرخت في قلبي :" لا تسقط عنه! اختر الحياة واخترني"، ولكن على شفتي أطبقت بطانيتي.

وإذا به بعد لحظة يقفز منفرج الساقين على ظهر الحيوان الخائف، وأفلته الرجال من قبضتهم، فقفز البوني كالسهم من قوس قوي، بمنخرين نافرين، مندفعا نصف المسافة الى الخيمة المركزية. يشد الفارس العنان بكل ما أوتي من قوة، ويتوقف البوني بسيقان يابسات كالخشب فينقذف الراكب الى الأمام بقوة ولكن لا يسقط، و يتقافز المخلوق المجنون ضاربا حوافره عاليا في الهواء، فيما يتمايل صف الرجال والنساء متراجعا الى الوراء ليعود الى مكانه بعد أن يأمن أذى ذلك الشيء الذي يرفس ويصهل.

إن البوني شرس وقد جحظت عيناه من محجريهما، بظهر محدودب وخطم قريب من الأرض، يثب في الهواء. أغمضت عيني.

لا يمكنني رؤية حبيبي يسقط.

تتعالى صيحات من حناجر الرجال والنساء الجشاء، فأنظر أنا. إذن فقد تمت السيطرة على الحصان الوحشي. ترجل حبيبي عند مدخل الكوخ المركزي. يقف البوني، مبللا بالعرق ويرتجف من الإجهاد، مثلما يقف كلب مذنب الى جانب سيده. هنا عند مدخل الخيمة المخروطية يجلس الأب والأم والشقيقة الثكالى. ينهض الأب المحارب العجوز، يخطو الى الأمام خطوتين واسعتين، يمسك بيد قاتل ابنه الوحيد. صاح بصوت المشفق وهو يرفع اليد عاليا ليستطيع الناس رؤيتها :" ولدي!" انتشرت همهمة شعور بالمفاجأة مثل هبة ريح مباغتة عبر الصفين، والأم، بعيون منتفخة، والشعر المقصوص الى حد الكتفين، تنهض، وتسرع الى الشاب، وتأخذ يده اليمنى، وتحييه :" ولدي!"، ولكن صوتها يرتجف في آخر الكلمة وتستدير مبتعدة وهي تنشج.

ثبت الشبان عيونهم على المرأة الشابة التي لا تتحرك، ودون رأس محني، تجلس بلا حراك. يتحدث اليها المحارب العجوز قائلا :" صافحي الشجاع الشاب، يا ابنتي الصغيرة. لقد كان صديق أخيك لسنوات عديدة، والآن يجب أن يكون صديقا وأخا لك". تنهض الفتاة عندئذ، وتمد ببطء يدها النحيفة، وتبكي، وبشفتين مرتعشتين تقول :" أخي!"، وتنتهي المحنة".

تنفجر الفتاة سائلة وهي على فراش من العشب الناعم :" جدتي! هل هذا حقيقي؟".

أجابت الجدة بدفء في صوتها :" سؤالك هذا هراء!(4) طبعا كله حقيقي. خلال سنوات زواجنا الخمسة عشر ذهب من أيدينا الكثير من أحصنة البوني، ولكن هذا الفائز الصغير، أوهييسا، كان العضو الدائم في عائلتنا. أخيرا مات جدك في ذلك اليوم الحزين وتم قتل أوهييسا عند القبر".

برغم أن المجاميع المتنوعة من النجوم التي تتحرك عبر السماء، وهي تعلم الناس بمرور الزمن، أخبرت كيف أن الليل صار في ذروته فإن المرأة الداكوتية العجوز غامرت بقضاء المزيد من الليل في إيضاح لمراسيم الدفن، قائلة :" يا حفيدتي، لم يسبق لي أن نطقت في حياتي بالمعرفة المقدسة، والليلة يتوجب علي أن أخبرك بإحداها، فأنت بالتأكيد كبيرة بما يكفي لتفهمي. قال طبيبنا بأني أحسنت الفعل بالإسراع في الحاق أوهييسا بسيده. ربما يتعب جدك خلال الرحلة على درب الأشباح ويتمنى في قلبه وجود حصانه البوني، فذلك المخلوق الذي قفز مسبقا منطلقا في إثر الروح، قد تجذبه تلك الأمنية اللطيفة فيدخل السيد والحيوان أرض المخيم الآخر".

سكتت المرأة عن الكلام، ولكن كان التنفس العميق للفتاة هو فقط الذي يشوب الهدوء، وآنذاك كانت ريح الليل قد هوَّدت نفسها للنوم.

تمتمت بصوت نكِد :" هنو! هنو! إنها نائمة! كنت اتكلم في الظلام، غير مسموعة. تمنيت أن تزرع الفتاة في قلبها هذه الحكاية المقدسة".

غفت، وهي تأوي في فراش من العشب الناعم ضواع الرائحة، لتروح في حلم آخر، والنجم الحارس في الليل لا يزال يومض بإشفاق على الخيمة المخروطية الصغيرة في السهل.

ـــــــــــــــــــــــــــ

مفردات هندية  وردت في القصة:

1-  Heyä! Heyä! وتعني لا! لا!

2- How وتعني أهلا.

3- Ho-Po  وتعني أخرجوا.

4-Trosh تعني هراء!، كلام فارغ!

المصدر:

The Portable American Realism Reader, James Nagel and Thomas Quirk.1946

*زيتكالا- شا (معنى الاسم الطير الأحمر) 1876-1938 من سكان أميركا الأصليين، ومن قبيلة داكوتا  التي سميت ولايتان على اسمها في شمال الولايات المتحدة. تستحضر حكايتها القصيرة (درب المحنة) الاقتلاع الثقافي الذي شعرت به المؤلفة عند بلوغها وفي الوقت نفسه تحمي من الضياع شكلا من أشكال تقاليد البطولة والعدالة والمسامحة التي تستذكرها الجدة، والواقع أن نتاجات الكاتبة والشاعرة والموسيقية والناشطة المدنية زيتكالا كلها تندرج ضمن كفاحها للحفاظ على الهوية الثقافية. ألفت أول أوبرا أميركية هندية (أوبرا الشمس ترقص) 1913 مثلما ألفت (انطباعات عن طفولة هندية) 1900 و(الأيام المدرسية لفتاة هندية) 1900 و(أساطير الهنود القديمة) 1901 و(قصص أميركية هندية) 1921، وغيرها، أما في سياق نضالها السياسي والمدني فهي من مؤسسي المجلس الوطني للهنود الأميركيين وترأسته حتى وفاتها.

عرض مقالات: