اخر الاخبار

مقدمة المحرر :

ظهر سارتر و كامو كصوتين يحاولان إعادة تعريف ما يعنيه أن تكون إنسانًا. ولم تكن الوجودية بالنسبة لهما مجرد فلسفة، بل كانت تجربة حياة، ورفضا لسلطة المعنى الجاهز

جمعتهما صداقة فكرية عميقة، لكن سرعان ما فرّق بينهما سؤال جوهري: كيف نعيش في عالم بلا يقين؟  سارتر آمن بالالتزام السياسي والثورة الجماعية، فيما اختار كامو طريق التمرد الفردي والوضوح الأخلاقي هذه القصة ليست عن فلاسفة فقط، بل عن كيف يمكن لفكرتين متقاربتين أن تنقلبا إلى طريقين متباعدين. في زمن يعيد فيه العالم طرح الأسئلة نفسها عن الحرية، والمعنى، والعدالة لكي تبدو عودة هذا الحوار بين سارتر وكامو أكثر راهنية من أي وقت مضى .

 الوجودية ليست تيارًا فلسفيًا تقليديًا بقدر ما هو تقاطع لأسئلة ملحّة حول ماهية الإنسان ومعنى الحياة , تعود جذورها إلى القرن التاسع عشر مع كيركغور ونيتشه، لكنها ازدهرت فعلًا في القرن العشرين، في ظل ما شهده العالم من فوضى تاريخية و في هذا السياق، برز سارتر وكامو كلٌ بطريقته، وكلٌ بسؤاله الوجودي الخاص . ولد سارتر في باريس عام 1905 وعاش حتى عام 1980. نشأ يتيم الأب، في كنف أمّه وجدّيه، في عزلة وصفها لاحقًا بأنها “خانقة” و وجد في الكتب صحبةً وملاذًا و درس الفلسفة في “المدرسة العليا للأساتذة” بباريس، ثم سافر إلى ألمانيا حيث تعرّف على الظاهراتية لدى هوسرل وهايدغر، فكانت تلك الأفكار بمثابة بذور رؤيته الفلسفية

خلال الحرب العالمية الثانية، وقع أسيرًا لدى الألمان، وهناك تعمّق أكثر في فكر هايدغر. وبعد إطلاق سراحه لأسباب صحية، انخرط في صفوف المقاومة الفرنسية، وهناك التقى بكامو للمرة الأولى.  كانت السياسة آنذاك جسرًا بينهما، لكنه تحوّل لاحقًا إلى هاوية

وفي الجزائر وُلد كامو عام 1913. يتيم الأب أيضًا، نشأ في أسرة عاملة متواضعة، وعاش فقرًا لم يعرفه سارتر. اختلفت بيئته الاجتماعية، لكن مثل صديقه القديم، كان لأمّه وجدّته أثر بالغ في حياته .

كان كامو كاتبًا وروائيًا ومسرحيًا، وعُرف بشخصيته اللا منضبطة على المستوى الشخصي، حيث تعددت علاقاته العاطفية.

ولكن ما فرّق بينه وبين سارتر ليس أخلاقياته الشخصية، بل تجربته السياسية في الجزائر. فقد عارض كامو اليسار ، فيما رأى سارتر في الماركسية حلًا جماعيًا جذريًا لمشكلات الإنسان الحديث وفي خلافاتهما، اشترك كامو وسارتر في محاور رئيسية فكلاهما دعا الى تحرير الإنسان ورأى كلاهما أن الإنسان لا يعيش في عزلة، بل في علاقات دائمة مع الآخرين، تتجسد فيها حالات الاغتراب والانفصال

لكن تباينت نتائجهما: فالنسبة لسارتر، كان هذا الاغتراب يكشف “العدم” الذي يُدخل الوعي البشري إلى العالم، ويمنحه حرية مطلقة، لأنه يميّز بين الممكن والواقع، بين الذات والموضوع.

أما كامو، فقد رأى في ذلك “العبث” صراع الإنسان مع عالم بلا معنى ، حيث يصبح استمرار الحياة موقفًا عبثيًا، لكنه نبيل.

ولم تكن نظرتيهما دعوة لليأس بقدر ما كانت بحثًا عن أفق للحرية. “الوجود يسبق الماهية”، قال سارتر، أي أن الإنسان يُخلق أولًا، ثم يقرر بنفسه ما يكونه. أما كامو، فقد اختصر فلسفته في صورة (سيزيف)، الذي يدحرج صخرته إلى أعلى الجبل كل يوم، على الرغم من عبث المهمة، لكنه مع ذلك “سعيد”، لأنه اختار الحياة، وواجه عبثها بلا وهم . أزمة الخلاف بينهما قد وصلت ذروتها عندما نشر كامو كتابه (الإنسان المتمرد)، الذي دعا فيه إلى الحوار واللا عنف، محذرًا من وهم الثورات الدموية, وقد  ردّ سارتر عليه بحدة، واتهمه بالعجز عن فهم التاريخ.  كان سارتر يسعى الى دمج الوجودية بالماركسية،  مع تناقضهما الظاهري، مؤمنًا أن الحرية الفردية لا تكتمل إلا بتحرر الجماعة" لا أحد حر، ما لم يكن الجميع أحرارًا" ورغم الجفاء الذي ختم علاقتهما، فقد ترك كلاهما أثرًا لا يُمحى في الفكر الحديث. حين توفي سارتر عام 1980، وكان قد رفض جائزة نوبل للآداب عام 1964، قائلاً إنه لا يريد أن يُحوَّل نفسه إلى “مؤسسة”. 

كامو من جهته قبل الجائزة عام 1957، وكان أصغر فرنسي ينال هذا الشرف. مات بحادث سير عام 1960، في مشهد بدا وكأنه تجسيد لعبثية الحياة التي طالما كتب عنها .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتب ومترجم مقيم في نيويورك*

عرض مقالات: