قد يكون البحث عن الذات مبررا، وحاملا معه رغبة عميقة للتعبير عن علاقتها بالوجود أو المعنى، لكن ذلك لا يعني تعسفا إزاء الآخرين، ولا تجاوزا عليهم، وتحويل تلك الذات الى اشبه بالفيل الذي يطير..
يكتب البعض أو يحضر بوصفه بطلا في المقهى، أو الشارع، كاشفا عن بالونات تلك الذات، مُعرّيا لأوهامها، ولما لا تمتلكه من أهلية "ثقافية" تُبيح له التصرّف بعنف إزاء هذه الظاهرة أو تلك، أو إزاء هذا المواطن الثقافي أو ذاك..
لست معنيا بتشخيص حملة رايات "الخصخصة الثقافية" والموهمين بذوات معلولة في تاريخها وأفكارها، وفي طرق تعبيرها عن الوعي المسالم أو "الوعي الشقي" لكني أجد نفسي حزينا حين تتحول بطولة المقهى الى "اشهار" وربما الى ملحمة، وبطولة الفراغ الى "سبرانو موسيقي" صاخب، حيث يتحول الآخرون الى "اغيار" او الى خصوم" رغم غياب الأسباب الموجبة لتسويق هذه الغيرية المتعسفة في توصيفها، وفي تأطيرها..
أنا أكره التماثل، وانحاز جدا الى الاختلاف، لكنه الاختلاف القائم على الوعي، والجدّة، وعلى الإرادة والمسؤولية، وهي شروط ضرورية لصياغة وجود متعال، نحتاجه في التعاطي مع افكارنا واسئلتنا، وحتى مع حواراتنا التي غابت تقاليدها في المقاهي، وصارت الشكوك والتهم ورمي "المنجنيقات" جاهزة في التصرف، وفي البحث عن أوهام لا علاقة لها بالحق الثقافي، بما فيه حق المعارضة..
اسمع كثيرا، واقرأ كثيرا، ويصلني بعض الهمس القاسي، لأجد نفسي إزاء ذوات ثقافية لا تملك شجاعة تمثيل المسؤولية الثقافية، وحيوية النقد، لكنها تمارس وظائف صناعة البالونات، وصناعة الكراهيات، في الوقت الذي يفترض وظيفة أخرى متعالية ل"العقل الثقافي" العقل بمعناه الكانطي، الرافض للجهل، وللرثاثة، والقادر على أن يؤسس "نقده" على أساس وجود الواجب، وليس الوهم الذي تصنعه الكراهية..
الحق في المعارضة حقٌ أخلاقي وثقافي، وحتى قانوني، لكن هذا الحق سيكون مشوها حين يُستعمل بوصفه مجالا لتصريف الكراهية، ولرمي الناس بالضلالة، وربما بالجحود الثقافي، وبما يجعل من "الثقافي" خاضعا الى ضيق أفق "العيادي" بتوصيف فوكو، إذ سيكون هذا الثقافي جزءا من توصيف "المرض" ومن ثنائية المراقبة والعقاب، وليس جزءا من الحياة، ومن "العافية الثقافية" التى تحتاج فيها الى جرعات عالية من الحرية، لكي نعترف إزاء انفسنا، وإزاء أصدقائنا، بعيدا عن ذاكرة الغبار القديم...